الجمعة - 26 نيسان 2024

إعلان

لحظات من سيرة انتفاضة التبغ خريف عام 1972(الجزء الثاني)

المصدر: "النهار"
لحظات من سيرة انتفاضة التبغ خريف عام 1972(الجزء الثاني)
لحظات من سيرة انتفاضة التبغ خريف عام 1972(الجزء الثاني)
A+ A-

نتابع في هذه الحلقة الثانية الأخيرة شهادة السيد هاني فحص الميدانية عن زراعة التبغ وانتفاضة المزارعين في جنوب لبنان خريف عام 1972. يتم القطاف في ضوء "اللوكس" يوضع له عمود حديدي وسط البقعة المراد قطافها، وتتحول بعض الحقول غابة من "اللوكسات" المضاءة، ما يثير قلق الافاعي والعقارب فتتحرك لمغادرة البقعة، وتقع في الطريق على فريسة ويعلو الصراخ. وتعبأ الاوراق المقطوفة، المنضدة بطريقة ما، في صناديق خشبية ينقلها فتى على ظهر الدابة الى المنزل او خيمة "الشكاك". مرة كنت عائدا الى الحقل بعدما اودعت الصناديق مكانها، وجاءني النوم على ظهر الدابة، واثناء النوم استيقظت على صوت حركة، فتحت عيني رأيت جسما يتحرك سلّمت عليه لاستأنسه من خوفي ثم تبيّنت انه كان كلبا... تعب ونعاس وخوف وسلام. بعد العودة، هناك فرصة نصف ساعة للصبايا القاطفات وبقية العاملات للذهاب الى المنزل وغسل اليدين من المر وتبديل الثوب الذي يصبح اسود من اثر التبغ، بثوب اقل سوادا لبقية اليوم. والصبايا ذكورا واناثا يجلسن ويجلسون طوال النهار امام اكوام الورق، يشكونها من الغصن الاقل طراوة في الوسط، في "الميبر" مصنّفة حسب طولها، وبسرعة لافتة... وتصيب الشهرة اسرعهن مما يعطيها حقا في الدلال على رب العمل. والى المساء، مع ساعة للغداء في المنزل اذا كان قريبا او في مكان العمل... يزال بعض المرّ عن اليدين ويبقى اكثره، يختلط الاكل بالمرارة، يصبح السكر مشوبا بالمرارة، وتدخل مرارة التبغ على مرارة الشاي... اما الطعام فهو طوال الصيف يراوح بين البطاطا المسلوقة او البرغل المسلوق، او البندورة بالبرغل، فالوقت قصير لا يتسع لاعداد الوجبات المعقدة، ولا يتسع لغسل الثياب احيانا... من هنا كنا ملزمين كفتية متفتحين على جماليات الفتوة، ان نحافظ على قمصاننا وسراويلنا نظيفة زمنا اطول. لضيق وقت الاهل وقلة الماء وغلاء الصابون. وقد تتهيأ فرصة، لأكلة ريفية مركبة ك"المجدرة" ولنوم طويل واستحمام وغسيل ثياب. بوفاة احد من اهل القرية... كنا اشد الفة وتواصلا وشراكة في الحزن والفرح... هكذا يمرّ موسم القطاف والشكاك... المرأة في المشتل وفي موسم الزرع شريك اساسي وفي موسم القطاف تستأثر بمعظم الشغل... اما في مرحلة اعادة الفرز والتوضيب والتصنيف (التصفيط) فيكاد ان يكون العمل كله من شغل المرأة، والرجل موجّه، ليس الا... من هنا تأتي محورية التبغ في حياة المرأة، او الفتاة في الاصح. فالبنت لا تتزوج ولا يزوجها اهلها الا في آخر الموسم، وهذا شرط رب العمل ايضا. كنا نوقّت بالتبغ وعلى التبغ، في كل شيء. الملاكون الكبار و"الريجي" لقد ابتلينا بالتبغ، استأثر التبغ بالمساحات الاكثر خصوبة من ارضنا، وعطّل الزراعات الاخرى. لم نعد نزرع تينا وزيتونا وكرمة ولوزا ورمانا، بل اقتلعنا التين والزيتون من امام زراعة التبغ، لأنها تتيح للعائلة كلها ان تعمل. ولو حسبنا قوة العمل او مجموع الجهد المبذول على الناتج او العائد العام، لكان هذا الناتج، وبالقياس على الثمن البخس المتداول لقوة العمل، اقل بكثير. الى ذلك فإن معاناتنا كانت اشد مع اصحاب الملكيات الكبيرة، ومن تدخل السياسيين في عملية تخمين المحصول وتسعيره... ووصلت المسألة عام 1972 الى ذروتها، اذ تدخل اصحاب الملكيات الكبيرة وهم سياسيون او اصدقاء لهم لتضييق الخناق على صغار المزارعين. فهناك موازنة عامة للمحصول العام في كل منطقة، والموسم محصور تتولى الدولة عبر مراسليها المختصين عملية تخمين بكذا كيلو غرام ولا تسمح بالزيادة او النقيصة الا في حدود عشرة في المئة، وما زاد تصادره وما قل تعاقب عليه... الا اذا كان المعني كبيرا. فالدولة تشرف اذاً على الرخصة والمساحة المرخص بها وعلى تخمين المحصول واستلامه وتصنيفه وتطبيق جدول الاسعار على الاصناف. ويفترض ان توزع الموازنة على مجموع المحصول، تراعى في ذلك الجودة وعدمها. الملاكون الكبار كانت لهم علاقة قائمة على المنفعة المتبادلة مع الخبراء المولجين بهذه الامور، فيبدأ اللعب من الكيل - اي تطبيق الرخصة على المساحة المزروعة، مما يجعل من الممكن ان يقدر الدونم الفعلي بنصف دونم. ويخمن الدونم الذي ينتج مئة كيلو بمئة وخمسين ويشتري الملاك الكبير الفرق من فلاحين صغار بأبخس الاثمان، ليبيعها بأعلى الاثمان... وفي النهاية يُشترى محصول كبار الملاكين بالقسط الاكبر من الموازنة المخصصة ويبقى القسط الاصغر للكمية الاكبر من تبغ المزارعين الصغار، فيحصل تفاوت هائل في الناتج وفي الاسعار، ما يجعل المزارع الصغير ينتهي بالتساوي مع تكاليفه او بالخسارة في اكثر الاحيان، فلا يدخل الى جيبه شيء، وانما يذهب العائد الى المصرف او الى رصيد المرابي، الذي هو في الاعم الاغلب مزارع كبير... وهكذا. كان بإمكان المزارع الصغير قبل عام 1972 ان يدخل الى غرفة الخبير مع من يختار من اصدقائه او ابنائه الذين يعرفون ما يفعل الخبير. في موسم 1972 طلعت شركة الريجي - الحصرية - بفرمان يقول بأنه ممنوع ان يدخل الى الغرفة السرية غير المزارع، الذي هو في الاغلب غير قادر على تمييز الاشارات والمصطلحات التي يضعها الخبير على محصوله، فلا يعرف ما جرى... وله حق اعتراض كان دائما شكليا ولا ناتج له... بينما يكون المزارع الكبير، مباشرة او عبر السياسي، قد تواطأ مع الخبير، وهو في العادة يعرف المصطلحات الفنية ويستطيع ايقاف التصنيف قبل اكتماله فلا يقع في محذور الاعتراض غير المجدي. الى ذلك فإن الريجي قررت ان هناك كمية من التبغ الموضب هي عديمة النفع، بحكم التالفة، وحددت لها نسبة معينة تصل الى عشرة في المئة، فلم يعترض المزارعون، لكنهم اعترضوا على مزاجية الخبير في تقديرها، حيث ان المزارع الصغير كان اكثر تعقيدا في العادة، ومع ذلك تحسب عليه هذه النسبة من دون تمييز، بينما المزارع الكبير هو الذي يدخل كمية اكبر من المسموح به في تبغه (حجارة، تراب احيانا) ولا تحسب عليه، بل له، وفي اسوأ الحالات يكون احتسابها في حدود دنيا تقل عن العشرة في المئة. قبل ذلك واثناء صيف عام 1972 كان قد حصل امر لا سابق له. اذ ان قوانين الريجي تمنع نقل الرخص من محافظة الى محافظة، واحيانا من قضاء الى قضاء، وحصل ان ملاكين كبارا في الشمال استبدلوا بزراعة التبغ زراعات اخرى، فباعوا رخصهم لتجار من الجنوب بأسعار زهيدة، فتملكوا البعض وباعوا البعض الآخر بأسعار عالية للفلاحين الصغار، بعدما شرّعت شركة الريجي هذه الصفقة ثم تكشفت الاسرار... مما زاد من غضب المزارعين واحساسهم بالغبن. وتحرك المزارعون الصغار مطالبين بالانصاف. وكنا معهم، وراءهم، بقيادتهم، ولم يكونوا بقيادتنا، لم يكونوا بقيادة احد... وللتاريخ فإن بعض الاحزاب اليسارية، التي تصدرت التحرك بعد ايام ثلاثة، كانت قد شككت في جدواه ودعت الى عدم الاشتراك فيه. ولكن عندما بان حجمه وحقه، دخلت وظلت داخلة فيه الى ان استطاعت السيطرة على التشكيلة النقابية التي ظهر كأنها انبعثت عنه، لكنها لم تنبثق عنه فعلا، اذ اتت وكأنها توزيع للحصص بين الاحزاب، مع تمثيل محدود للمزارعين رفعا للعتب ليس الا. وسارت في النبطية مظاهرات حاشدة بعدما تدفق الفلاحون من كل الاقضية، وانتهت المظاهرة بالاعتصام في مبنى الريجي في النبطية. وحاصرت قوى الامن والجيش يومها المبنى والمعتصمين، ثلاثة ايام، منعت خلالها ايصال الاكل والشراب اليهم. وكان من بقي داخل الريجي عددهم ثلاثة وثمانون رجلا بين شاب وكهل. وفي اليوم الثاني وصلت الى قرب المبنى تظاهرة ضخمة للمطالبة برفع الحصار، فأطلقت عليها النيران وقتل من المزارعين نعمة درويش من حبوش وحسن الحايك من كفر تبنيت. وفرقت التظاهرة بالقوة، بأمر من رئيس الوزراء وقتها. ثم استدعيت في الليل، قوة كبيرة من الجيش وقوى الامن الداخلي تقدر بكتيبة لاعتقال المعتصمين واخذهم مخفورين الى ثكنة الجيش في النبطية... واستمرت التظاهرات في المنطقة وامتدت الى بيروت وضغطت لاطلاق سراحنا وتحقيق المطالب التي لم تحقق الا جزئيا وفي العام التالي... ولكن ازمة التبغ تداخلت مع ظروف الحرب، عندما تعرض موسم العام 1976 للكساد، لأن وزارة المال امتنعت عن شراء المحصول بحجة عدم وجود ارصدة. فكان لا بد من تحرك شعبي.. وحصل ذلك على عدة اصعدة، وسافرت مع بعض الاصدقاء الى القاهرة، بالبحر، على باخرة غنم، قاصدين دولة عربية معينة، سبق ان دفعت قسطا من ثمن الموسم، لعلنا نستكمل العملية، فمكثنا في القاهرة شهرين لأن الدولة المعنية لم ترحب بنا، ثم اتجهنا بناء على نصيحة الى دولة عربية اخرى فاستنقذنا منها، بعد تعب طويل، جزءا من حقنا، جزءا من دمنا، بلغ سبعة عشر مليون ليرة لبنانية، خصصناها للجزء الاكبر مما تبقى من الموسم وبسعر مقطوع، حتى لا نقع فيما وقع فيه غيرنا من التمييز والتلاعب بالاسعار بحسب الامزجة او بحسب الولاءات السياسية والحزبية. تم ذلك عبر لجنة من المزارعين ومن نقابة مزارعي التبغ... وبقي قدر قليل من الموسم فتحمست وزارة المال ورصدت له المبلغ اللازم لشرائه. وفي العام التالي... كانت زراعة التبغ قد انقرضت تقريبا... لتعود مع بداية السلم الاهلي خيارا وحيدا لكثير من اهلنا في الجنوب. وفي الشريط الحدودي على وجه الخصوص. * مداخلة قدمت الى مؤتمر "الايمان وحركات التغيير" الذي انعقد بدعوة من برنامج (المدينة والريف (U.R.M في قبرص بين 13 و19 تشرين الاول 1994 - وهو شهادة ميدانية عن زراعة التبغ وانتفاضة المزارعين في جنوب لبنان خريف عام 1972.

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم