السبت - 27 نيسان 2024

إعلان

لحظات من سيرة ذاكرة التبغ في الجنوب

المصدر: "النهار"
Bookmark
لحظات من سيرة ذاكرة التبغ في الجنوب
لحظات من سيرة ذاكرة التبغ في الجنوب
A+ A-
لم اكن انتظر ان اتحدث في محفل كهذا، عن تجربتي في هذا المجال، لأني اعيشها كما لو كانت امرا عاديا، ولذا يبقى وعيي لها اقل بكثير من انخراطي فيها. سوف اختار تجربتي في حركة مزارعي التبغ، التي سميت انتفاضة، وحدثت في الشهر الاخير من عام 1972 وامتدت تفاعلاتها الى الشهر الثالث من عام 1973. وكان مسرحها جنوب لبنان، وكانت خشبة المسرح مدينة النبطية. وكان المشهد مكوّنا من حركة عفوية، يكمن وراءها التعب والسهر الذي لا تكفي عوائده لسد الرمق. واختلط هتاف المزارعين بدمهم، اختلط الدم بالعرق، كما كان دائما، وكما هو باق. مما يدعونا الى ان نبقى جاهزين للاحتجاج منسجمين، في ذلك، مع ايماننا، ومع ادياننا التي يشكل الفقراء والمهمشون همها الاول. حركة مزارعي التبغ اتكلم عنها لأني اختبرت فيها لياقتي كمؤمن وقدرتي على الاصغاء لنبض الفقراء. ففتحت لي الباب واسعا، على علاقة حميمة مع الناس وقضاياهم... مما جعلني استجمع مصادر وعيي وسلوكي في هذا المجال، فماذا وجدت؟ وجدت اننا نأتي الى الهم الاجتماعي العام، الى هموم الناس من ثلاثة مسارب، يفضي كل منها الى الآخر ويكمله، على اساس ان الاستناد الى العقيدة، وحدها، في العمل الاجتماعي، لا يكفي، بل لا بد من التوفّر على الحقيقة الوضعية، على دراسة الحقيقة الوضعية. هذه المسارب الثلاثة هي: مسرب المعاناة ومسرب النص او العقيدة، ومسرب الوعي الموضوعي. ابدأ بالنص. واقصد بذلك النص الذي تجسد سلوكا او السلوك الذي تبلور نصا. استعجل هنا واذكر ببعض النصوص: "كي تكون للخراف حياة وتكون لهم بوفرة" من السيد المسيح (ع) ومن الرسول الاكرم (ص)، وعنه يقول المؤرخون عندما يصفون حياته انه كان يمشي في الطرقات حاسرا حافيا بدون حارس، ويركب الحمار العاري بدون إكاف ويردف خلفه، وكان يقوم بوظيفة اهله، يقطع اللحم معهن ويقول: خيركم خيركم لأهله وشرّكم شرّكم لأهله... ومرة خاطبه احد الناس متهيبا وارتجف فقال له: هوّن عليك، ما انا الا ابن امرأة كانت تأكل القديد بمكة. ومرة شاهدته امرأة كثيرة الكلام وهو يأكل مقتعدا الارض متمندلا بباطن قدميه فقالت: تدعي انك نبي وتأكل اكل العبيد! قال: ومن اعبد لله مني؟ هنا حدّد الرسول (ص) القيادة على انها مسؤولية وليست امتيازا، والانفصال النسبي، البعد النسبي في الظاهر، بين القائد والمقود، بين الراعي والرعية، هو مسافة موضوعية تتيح او تستدعي وظيفة اضافية، اعلى واعقد، لا اكثر. وعلي بن ابي طالب (ع) شواهده كثيرة. اولها نظرته لموقعه في السلطة. كان يخصف نعله الليف بيده، فدخل عليه عبد الله بن عباس فقال له: يا ابن عباس أترى إلى هذه النعل كم تساوي؟ قال ابن عباس: انها لا تساوي شيئا، قال علي: والله إن إمرتكم عندي اهون علي من هذا النعل الا ان اقيم حقا او ابطل باطلا... ومعروف كلامه في عتاب عامله على البصرة عثمان بن حنيف لأنه قبل دعوة "فتية" اي اغنياء من اهل البصرة الى الطعام فعاتبه قائلا: وما كنت اظنك تجيب الى طعام قوم غنيهم مدعو وعائلهم مجفو. فمقياس الصحة اذاً هو علاقة القائد او الحاكم او العالم، بالفقراء والمهمشين. وانتهى علي في كتابه الى قوله المحفوظ "ام كيف ابيت مبطانا ومن حولي قلوب غرثى واكباد حرّى وهناك بالحجاز او اليمامة من لا يشتهي القرص ولا عهد له بالشبع. أأرضى ان يقال: هذا امير المؤمنين، ولا اكون اسوة لهم في جشوبة العيش ومكاره الدهر!!! هيهات ان يشغلني هواي...". نأتي من هذه النصوص، وهي كثيرة كثيرة. ونأتي من عصارات فكر ورؤية عبر عنها ادباؤنا مثل صلاح عبد الصبور الذي يقول: "وكنت عندما احس بالرثاء للبؤساء الضعفاء، اودّ لو اطعمهم من قلبي الوجيع، وكنت عندما ارى المحيرين، الضائعين التائهين في الظلام، اود لو يحرقني ضياعهم، اود لو اضيء...". وفي الحوار بين الحلاج والشبلي في "مأساة الحلاج" يقول الحلاج: هبنا جانبنا الدنيا، ما نصنع عندئذٍ بالشر؟... الشبلي: ماذا تعني بالشر؟... الحلاج: فقر الفقراء، جوع الجوعى، في اعينهم تتوهج الفاظ لا اوقن معناها، احيانا اقرأ فيها: انت تراني، لكن تخشى ان تبصرني، لعن الديان نفاقك". هذه النصوص، هي بعض سياجنا ضد النفاق. اما عن المعاناة فأنا في الاصل مزارع تبغ، قلت مرة: اني ولدت الى جانب شتلة التبغ. ففي البدء كانت المعاناة. والمعاناة تخلق نوعا من التوحد، من الإلف، كمعاناة الام لطفلها وهو جنين في رحمها، ما تجعلها تتوحد معه... ابو تمام يتكلم عن الارض في علاقتها التبادلية مع اهلها، يقول: "رعته الفيافي بعدما كان حقبة رعاها". وفي حوار شعري للجواهري بين فلاح وفلاحة عراقية نقرأ: "قال: ما اصبر الحقول على الناس! قالت: ومثلهن القلوب"....
ادعم الصحافة المستقلة
اشترك في خدمة Premium من "النهار"
ب 6$ فقط
(هذا المقال مخصّص لمشتركي خدمة بريميوم)
إشترك الأن
هل أنت مشترك؟ تسجيل الدخول
الكلمات الدالة

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم