الجمعة - 26 نيسان 2024

إعلان

العُصاة INSOUMIS

المصدر: "النهار"
عقل العويط
عقل العويط
العُصاة INSOUMIS
العُصاة INSOUMIS
A+ A-

هذا المقال أكرّسه تحيّةً للـ INSOUMIS أي العُصاة، الذين يرفضون الرضوخ أمام جَبَروتَين: جبروت السقوط الأخلاقي العامّ والخاصّ، وجبروت السلطة والاستبداد والديكتاتورية والترويع والترهيب وكمّ الأفواه والتطويع والاستزلام. 

العُصاة، الأحرار، الأشاوس؛ هؤلاء الذين يقولون "لا" لـ"الشياطين"، لشياطين ضعفهم وغواياتهم ومصالحهم الشخصية، ولشياطين الأنظمة والحكّام والمؤسسات. هم هؤلاء الذين يعرّضون حيواتهم للخطر، خطر الإذلال والإهانة والطرد والنفي والملاحقة والانتقام والسجن والتعذيب والقتل.

لقد ذكّرني بهذه الكلمة، INSOUMIS، كتابٌ لتودوروف يحمل العنوان نفسه، ويمثّل تحيةً إلى ثمانية "عُصاة" تاريخيين، في ميادين مختلفة، وفي بلدان مختلفة، كان لأشكال التزامهم "الأخلاقي" الأثرُ الكبير في ممارسة أدوارٍ وتأثيراتٍ، سياسية ومجتمعية وثقافية وفكرية عظمى، في بلدانهم ومجتمعاتهم.

مَن هم العُصاة، في تعريف تودوروف؟

إنهم أولئك الذين واجهوا، ويواجهون، "امتحانات" عنيفة، وحشية، في الغالب، لكنهم يمتنعون عن الخضوع، مرةً لخصومهم الذين يهدّدونهم في حيواتهم وصحتهم وعيشهم وكرامتهم، ويمتنعون مرّةً ثانيةً عن الخضوع لشياطينهم الشخصية.

كيف يتجلّى سلوك العُصاة؟

سلوكهم يتجلّى ويتبلور ويتجسّد في شكلَين عظيمَين من أشكال الحبّ. الحبّ، نعم. الحبّ: حبّ البشر، وحبّ الحقيقة. وفي مقدوري بلا تردّد، على غرار تودوروف، أن أضع هذين الحبَّين في بوتقة واحدة.

العُصاة هؤلاء، "مهووسون" بالتطلّب القيمي (الأخلاقي) حيال أنفسهم أوّلاً، قبل أن يتطلّبوا هذا التشدّد من الآخرين.

بهذه الطريقة، يتدرّجون في مراتب "القوّة الروحية" (الصلابة والمناعة والحصانة)، وصولاً إلى "تحرير" ذواتهم، وصيرورتهم ضوءاً (لا أيقونةً للعبادة)، فتحاً للطرق الموصلة إلى الخلاص الجماعي. إلى الحرية، لا الحرية الفردية فحسب، بل الحرية الجماعية.

العُصاة، هؤلاء، أنحني لهم، وأبحث عنهم، لأحفظهم برموش العينين، في أيّ مجالٍ عملوا، وفي أيّ بابٍ ولجوا.

العُصاة، هؤلاء، ما أجملهم، وما أعظم وجودهم، وما ألذّ التشبّه بتجاربهم!

مرةً ثانية، أقول: للاقتداء بتجاربهم، لا لتصنيمهم، وجعلهم آلهة!

العُصاة، يُعرَفون أولاً وأخيراً من خلال التزاماتهم القيمية والأخلاقية، التي أصبحت عملةً نادرةً، في زمننا الراهن هذا، لا على مستوى القضايا المتصلة بالشأن العام فحسب (الحكم والسلطة والسياسة والإدارة والمال مثلاً)، بل على مستوى الشأن الشخصي والفردي أيضاً وخصوصاً، وفي القضايا الحياتية اليومية، وفي كلّ ما يتصل بالمعايير الثقافية، وبالعلاقات بين الأفراد والجماعات.

كلّما نَدُر وجود العُصاة، وانحسر تأثيرهم، وتَراجَعَ التمثّل بهم، وانعدم التهيّب حيال مفاهيمهم ومقاييسهم، ضؤلت فاعلية البوصلة التي تدلّ على الطريق.

ربّما لهذا السبب، لندرة وجود هذا النوع من العُصاة بالذات، نحن في أزمةٍ كبرى. وطنية، وسياسية، ودستورية، وميثاقية، ومجتمعية، واقتصادية، ودينية، وفكرية، ونقدية، وأخلاقية.

وربّما لهذا السبب بالذات، لم نشهد في تاريخنا الوطني، اختلالاً في الميزان يوماً، مثلما نشهد اليوم، وهو مختلٌّ – يا للعار - أيّما اختلالٍ في كلّ جانبٍ من جوانب حياتنا ووجودنا.

العُصاة؛ هؤلاء الذين لا يساومون، ولا يتلاعبون، ولا يُجاملون، ولا يتخابثون، ولا يضعون رِجلاً في البور، ورِجلاً في الفلاحة، ولا يدوّرون الزوايا، ولا يغضّون الطرف عن أيّ نقيصة، ولا يتنازلون، ولا يرضخون أمام الانهيار الأخلاقي، هؤلاء هم خلاصنا الوحيد، الوحيد مطلقاً، لا على مستوى الفرد والبيت والعائلة والمدرسة والجامعة فحسب، بل على كلّ المستويات، ولا استثناء.

نحن بحاجةٍ إلى عُصاةٍ متمرّدين، رافضين، ثائرين، يطالبون فقط بتطبيق المعايير والمقاييس والقوانين، ويمتنعون عن "التطبيع" الأخلاقي والقيمي.

العُصاة، لا أنصاف حلول لديهم.

يريدون الحبّ، كلّ الحبّ. ويريدون الحريّة، كلّ الحرية.

إلى هؤلاء أقول: نحن بحاجةٍ إليكم، أيها العُصاة.

أنقذونا، أيها العُصاة، من أنفسنا. وانقذونا من هؤلاء!

[email protected]

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم