الجمعة - 26 نيسان 2024

إعلان

المذبحة الترامبية الوهمية

المصدر: "نيويورك تايمز"
بول كروغمان
المذبحة الترامبية الوهمية
المذبحة الترامبية الوهمية
A+ A-

سرعة انحدار أميركا الأخلاقي في عهد دونالد ترامب تخطف الأنفاس. ففي غضون أشهر معدودة، انتقلنا من دولة تدافع عن الحياة والحرية والسعي إلى السعادة إلى دولة تفصل الأولاد عن أهلهم وتضعهم في أقفاص.

واللافت بالدرجة نفسها تقريباً في هذا الانزلاق نحو الهمجية هو أنه لا يأتي رداً على أي مشكلة فعلية. فالتدفق الهائل للقتلة والمغتصبين الذي يتحدّث عنه ترامب، وموجة الجرائم التي يرتكبها المهاجرون هنا (واللاجئون في ألمانيا، بحسب تفكيره)، لا وجود لهما بكل بساطة. إنها مجرد هوامات مريضة تُستخدَم لتبرير ارتكاب فظائع حقيقية. وهل تعلمون بماذا يذكّرني هذا؟ يذكّرني بتاريخ العداء للسامية، إنها رواية قائمة على الأحكام المسبقة، وغذّتها أساطير وخدعٌ انتهت بحدوث إبادة.

أولاً، لنتوقّف عند الهجرة الحديثة إلى الولايات المتحدة، ونقارنها بتلك الهوامات المريضة.

يدور نقاش تقني جداً بين الخبراء الاقتصاديين حول ما إذا كان المهاجرون ذوو التحصيل العلمي المتدنّي يمارسون تأثيراً يتسبّب بتراجع رواتب العمّال المولودين في البلاد وذوي التحصيل العلمي المتدنّي (يعتبر معظم الباحثين أنهم لا يمارسون مثل هذا التأثير، إنما هناك بعض الخلاف). غير أن هذا النقاش لا يؤدّي أي دور في سياسات ترامب.

بل إن ما تعكسه هذه السياسات هو رؤية عن "مذبحة أميركية"، عن مدن كبرى يغزوها مهاجرون عنيفون. وليست لهذه الرؤية علاقة بالواقع. فعلى الرغم من تسجيل ارتفاع طفيف منذ العام 2014، الجرائم العنيفة في أميركا هي في أدنى مستوياتها تاريخياً، مع عودة معدّل جرائم القتل إلى ما كان عليه في مطلع ستينات القرن العشرين. (بالمناسبة، الإجرام في ألمانيا هو أيضاً في أدنى مستوياته). المذبحة التي يتحدّث عنها ترامب هي من صنع مخيّلته.

صحيح أنه إذا نظرنا في مختلف أنحاء الولايات المتحدة، نجد أن هناك ترابطاً بين الجرائم العنيفة وانتشار المهاجرين غير الشرعيين – لكنه ترابط سلبي. المقصود بذلك أنه في الأماكن التي تضم أعداداً كبيرة من المهاجرين، الشرعيين وغير الشرعيين، معدلات الإجرام هي عادةً منخفضة بطريقة استثنائية. والمثال الأبرز الذي يُسقط رواية المذبحة هذه تُقدّمه المدينة الأكبر على الإطلاق، نيويورك، حيث أكثر من ثلث السكّان مولودون في الخارج، وبينهم على الأرجح نحو نصف مليون مهاجر غير شرعي – وقد تراجع الإجرام إلى مستويات لم يُشهَد لها مثيل منذ الخمسينات. ولا يجب أن يكون ذلك مفاجئاً، لأن بيانات الإدانة الجنائية تُظهر أن احتمال ارتكاب المهاجرين، الشرعيين وغير الشرعيين على السواء، جرائم هو أقل بكثير بالمقارنة مع الاحتمال لدى أبناء البلاد. إذاً تعمد إدارة ترامب إلى ترهيب العائلات والأطفال، وتتخلّى عن جميع معايير الأدبيات البشرية، رداً على أزمة لا وجود لها.

من أين يأتي هذا الخوف من المهاجرين والكراهية لهم؟ يبدو أن جزءاً كبيراً منه هو خوف من المجهول: فالولايات الأكثر عداء للمهاجرين هي تلك التي بالكاد تضم مهاجرين بين سكّانها، مثل فرجينيا الغربية. غير أن الكراهية الشديدة للمهاجرين لا تقتصر على القرويين السذّج. فترامب نفسه هو بالطبع نيويوركي ثري، وجزءٌ كبير من التمويل للمجموعات المناهضة للمهاجرين مصدره مؤسسات خاضعة لسيطرة يمينيين من أصحاب المليارات. فلماذا يكره الناجحون الأثرياء المهاجرين؟ يخطر على بالي أحياناً المعلّق التلفزيوني لو دوبس الذي كنت أعرفه وكنت معجباً به في مطلع العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، لكنه أصبح متشدّداً ومسعوراً في مناهضته للمهاجرين (وأحد المؤتمنين على أسرار ترامب)، ويحذّر حالياً من مؤامرة مناصِرة للمهاجرين يقودها "مُدّعو التنوّر في مجموعات اللوبي في واشنطن".

لا أعلم ماذا يُحرّك هؤلاء الأشخاص - لكننا شاهدنا هذا الفيلم من قبل، في تاريخ العداء للسامية. البارز في العداء للسامية هو أنه لم يتمحور قط حول تصرفات اليهود. بل لطالما كان موضوعه أساطير مروّعة غالباً ما تستند إلى تلفيقات متعمّدة جرى نشرها بطريقة منهجية لإثارة الكراهية.

على سبيل المثال، كرّر الأشخاص، على امتداد قرون، الإشارة إلى "فرية الدم" – وهو الادعاء بأن اليهود كانوا يقدّمون الأطفال المسيحيين أضاحي في إطار طقوس عيد الفصح.

في مطلع القرن العشرين، انتشر على نطاق واسع ما يُسمّى بـ"بروتوكولات حكماء صهيون"، وهي خطّة مفترضة لسيطرة اليهود على العالم يُرجَّح أنها من إعداد الشرطة السرّية الروسية. (التاريخ يُعيد نفسه، في المرة الأولى في شكل مأساة، وفي المرة الثانية في شكل مأساة أكبر).

حظيت الوثيقة المزيّفة بانتشار واسع في الولايات المتحدة بفضل هنري فورد، المناهض بشدّة للسامية والذي أشرف على نشر وتوزيع نصف مليون نسخة من إحدى الترجمات الإنكليزية لبروتوكولات حكماء صهيون بعنوان "اليهودي الدولي" (The International Jew). اعتذر فورد لاحقاً على قيامه بنشر وثيقة مزيّفة، لكن الضرر كان قد وقع.

مجدداً يُطرَح السؤال، ما الذي دفع بشخص مثل فورد – ليس ثرياً وحسب، بل هو أيضاً من الأشخاص الأكثر إثارة للإعجاب في زمانه – إلى سلوك هذا المسار؟ لا أدري، لكن من الواضح أن مثل هذه الأمور تحدث.

في مختلف الأحوال، الأمر المهم الذي يجب إدراكه هو أن الفظائع التي ترتكبها دولتنا الآن عند الحدود لا تمثّل رد فعل مبالغاً فيه أو رداً سيّئ التنفيذ على مشكلة تحتاج إلى حل. ففي الحقيقة، لا وجود لأزمة هجرة؛ وليست هناك أزمة إجرام يتسبّب بها المهاجرون.

لا، الأزمة الحقيقية هي صعود الكراهية – كراهية غير منطقية لا علاقة لها بأمور ارتكبها الضحايا. وكل مَن يُقدّم تبريرات لتلك الكراهية – مَن يحاول مثلاً تحويلها إلى رواية "بوجهتَي نظر" – هو في الواقع ممّن يبرّرون الجرائم ضد الإنسانية.

ترجمة نسرين ناضر

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم