السبت - 27 نيسان 2024

إعلان

صحن القمر

محمود الزيباوي
A+ A-

في خريف عام 2011، كرّم "النادي الثقافي العربي" السيدة مي عريضة وحيّا الدور الكبير الذي أدّته في إقامة مهرجانات بعلبك الدولية منذ انشائها عام 1956. ردّت رئيسة لجنة مهرجانات بعلبك يومها التحية، فقالت: "كرّست حياتي لخدمة لبنان بواسطة مهرجانات بعلبك حتى تبقى مستمرة ولتلعب دوراً ريادياً في نشر الفن والثقافة والترويج للسياحة، وذلك بانفتاحها على العالم بحيث غدت هذه المهرجانات معروفة في كل بقاع الدنيا. وأعلن أنه قد آن لي أن أسلّم الامانة الى غيري ليتابع المسيرة".


في صيف العام 2012، كرّم وزير السياحة فادي عبود مي عريضة عند افتتاح ستارة مهرجانات بعلبك، وقال: "نشكر مي، نشكرك لأنك خلدت تجربة رائدة لنجاح المرأة اللبنانية في تحقيق التزامها والاستحقاق الذي تتولى تنفيذه. نشكرك لأنك صنعت من مهرجانات بعلبك أيقونة تشبه لبنان بتنوعه وقيمه وانفتاحه واحتضانه للجميع. نشكرك لأنك ترجمت حبّك الكبير للبنان بإنجازات ستبقى للتاريخ، نشكر إصرارك على زرع قيم الجمال والحضارة والثقافة والإبداع في مجتمع ووطن أدمنّا فيه احتراف التدمير والانشقاق والفوضى".


حلم بعلبك
في السنوات الأخيرة استعادت مي عريضة بعضاً من ذكرياتها البعلبكية في أكثر من مناسبة، وها هي اليوم تستعيدها من جديد في سيرة روائية بالفرنسية من توقيع المخرج نبيل الأظن المقيم في العاصمة الفرنسية منذ عام 1978. حمل الكتاب عنوان "مي عريضة حلم بعلبك". في مئة وستين صفحة من القياس الوسط، يقدم الراوي سيرة شخصية لسيدة اجتماعية معروفة، في قالب يجمع بين الحوار والتاريخ والفن والسياسة. تتحوّل هذه السيرة شهادة تؤرّخ لحقبة زاهرة من تاريخ لبنان تمثل في ذاكرتنا الجماعية "الزمن الجميل" الذي انقضى مع اندلاع الحرب الأهلية اللبنانية، هذه الحرب "التي ابتدأت منذ خمسة وثلاثين عاماً ولم تنته بعد"، كما يشير الكاتب بخفر فى جمعه لهذه الذكريات المبعثرة هنا وهناك.
منذ البدء، تتقاطع السيرة الشخصية مع قصة نشوء لبنان ونموّه السريع. بطلة "حلم بعلبك" هي مي خوري سعادة الشهيرة باسم مي عريضة، والدها حبيب خوري سعادة، وأمها ماري صعب. أكمل حبيب دراسة الطب في جامعة كولومبيا، وأنشأ في موطنه عيادة نسائية قصدتها بسرعة سيدات بيروت. أنشئت هذه العيادة في الطبقة الأرضية من منزل مؤلف من طبقتين، واستقر الطبيب مع زوجته في الطبقة العليا من هذا المنزل، وذلك في الرابع والعشرين من تموز 1922، يوم تمّ انتداب فرنسا لتولّي سوريا ولبنان وتأمين مرور الدولتين إلى طور الاستقلال المنشود. قبل شهرين من دخول هذا القرار حيّز التنفيذ، أنجبت ماري صعب طفلها الأول رينه في عام 1923، وأنجبت من بعده ابنتها مي، قبل أشهر من إعلان دستور الجمهورية اللبنانية في الثالث والعشرين من أيار 1926. هكذا نشأت مي في عهد شارل دباس، أول رئيس للدولة اللبنانيّة التي أصبحت منذ ذلك التاريخ جمهوريّة تحت الإنتداب الفرنسي.
بعد رينه ومي، أنجبت ماري صعب طفلها الثالث سيمون، وسكنت العائلة في الطبقة العليا من مبنى في حي السوديكو افتتح فيه الدكتور حبيب خوري سعادة مستشفى حمل اسمه. كبرت مي في هذا المنزل، وتزوجت من ابرهيم سرسق في السادس عشر من تشرين الأول 1942، وعاشت معه في دار عائلته. عرفت الجمهورية اللبنانية الناشئة في تلك الحقبة تحولات تاريخية كبيرة. خرج الفرنسيون بعد هزيمة الألمان في الحرب العالمية الثانية، واستتبّ الأمر للإنكليز في البلاد. زار الجنرال ديغول سوريا ولبنان لتقييم الوضع فيهما، وأصدر قراراً سمّى فيه الجنرال كاترو مفوضاً ساميًّا لحكومة فرنسا الحرة في هذين البلدين، فبادر كاترو فور تسلمه منصبه الرسمي إلى إذاعة بيان رسمي أكد فيه رغبة حكومته بإعطاء لبنان الاستقلال بموجب معاهدة تُعقد في وقت لاحق. ثبّت الجنرال كاترو ألفرد نقّاش في رئاسة الجمهوريّة اللبنانيّة، في مرحلة اشتدت فيها المنافسة على هذا المنصب بين بشارة الخوري وإميل ادة. في السادس والعشرين من تشرين الثاني 1941 أُعلن استقلال لبنان رسميا، غير ان معركة هذا الاستقلال ظلت مستمرة، وكانت نتيجتها انتخاب الشيخ بشارة الخوري رئيساً للجمهوريّة اللبنانيّة في الحادي والعشرين من أيلول 1943.
كبرت مي في ظل هذه التحولات التاريخية العاصفة، وكانت مع زوجها في مصر يوم فاز لبنان أخيراً باستقلاله. وحضرت في القاهرة عيد ميلاد الملك فاروق الذي أشرفت على تنظيمه خالته الأميرة شويكار. هام الملك بهذه الحسناء اللبنانية الشابة، وأراد التقرّب منها، فـ"حجز" جواز سفرها وجواز سفر زوجها لهذا الغرض، مما دفع الزوجين إلى الهرب براً والعودة إلى لبنان مرورا بقناة السويس، من طريق فلسطين. أنجبت مي من زوجها ابرهيم سرسق بناتها الثلاث، أمل، جمانة، وليندا. وصادقت السيدة مارغريت كاترو، واكتشفت معها ثراء الثقافة الفرنسية في باريس حيث التقت بالشعراء والكتّاب لوي آراغون، إلسا تريوليه، جان كوكتو، أندره مارلو، وجان بول سارتر. قيل لها يومذاك إنها لا تبدو لبنانية، فأجابتهم: "وما أدراكم باللبنانين؟". بعد ولادة مهرجانات بعلبك، عادت مي والتقت بجان كوكتو عام 1956، عند تقديم أول عروض المهرجان الرسمية، كما التقت بلوي آراغون عام 1974، قبل أن توقف الحرب الزاحفة هذه العروض لمدة اثنتين وعشرين سنة.
تستعيد مي ذكرياتها الأولى، قبل تحقيق حلم بعلبك في عهد كميل شمعون. تذكر كيف تحوّلت إلى سفيرة لكريستيان ديور في نيويورك يوم زارت المدينة برفقة النجمين السينمائيين بربارا ستانويك، وروبرت تايلور. التقط المصوّرون يومذاك صوراً لها وهي ترتدي ثوباً من تصميم ديور، ونُشرت هذه الصور في الجرائد، وكانت بمثابة إطلاق موضة "نيو لوك". أمضت مي مع زوجها عشرين يوماً في نيويورك، ثم انتقلت إلى لندن حيث حلّت في ضيافة كميل وزلفا شمعون لأسباب طارئة، وتابعت هناك أهم النشاطات الموسيقية والمسرحية، وافتتنت بمارغوت فونتاين، وبعد ثمانية وعشرين سنة، استقبلتها في بعلبك حيث لعبت المسرحية نفسها مع نجم صاعد يُدعى رودولف نورييف. في لندن، قال لها كميل شمعون: "لو ساعدني الله، ولو وصلت الى الحكم، سأعمل شيئاً من أجل قلعة بعلبك". وبقيت هذه الكلمات محفورة في ذاكرتها.
اكتشفت مي أن زوجها يخونها، وطالبت بالطلاق، وتوجّهت مباشرة إلى مقر بطريركية الروم الأرثوذكس في دمشق، وحصلت على مطلبها بعد ستة أشهر ذاقت خلالها طعم أهوال الجحيم. تمّ الطلاق في نهاية عام 1949، بعد نكبة فلسطين وهزيمة العرب. وجد لبنان نفسه أمام دولة عدوّة تحدّه جنوباً، وتدفق إليه ألوف اللاجئين، وذلك بالتزامن مع انتخاب بشارة الخوري للمرة الثانية، في انتهاك صريح للدستور الذي يحرّم الاستمرار في الحكم لفترتين رئاسيتين متتاليتين. واصلت مي حياتها، وتزوجت من كارلوس عريضة، وأنجبت منه ابنة سمّتها ماريا. عام 1952، انتُخب كميل شمعون رئيسا للجمهورية بعد استقالة بشارة الخوري، واعتبرت مي هذا الانتصار انتصاراً لها، وقال لها الرئيس ثانية: "سنفعل شيئاً في قلعة بعلبك".


نجاح المهرجان
في صيف 1955، مرّت "فرقة الكوميديا الفرنسية" في لبنان، وقدمت على مسرح باخوس أربع مسرحيات كبيرة وفتحت هذه العروض الباب أمام تحقيق حلم بعلبك. وفى الرئيس شمعون بوعده، وشكّل لجنة بعلبك. ضمّت هذه الجنة ايليا أبو جودة، كميل أبو صوان، نينا جيديجيان، جان فتال، سليم حيدر، خليل هبري، جان سكاف، فؤاد صروف، وعيّنت إيميه كتانة رئيسة لها، واختيرت سلوى السعيد مسؤولة عن النشاط المسرحي، وعُهد إلى مي عريضة كل ما يختص بالحفلات الموسيقية.
اتفقت اللجنة مع أوركسترا هامبورغ في المانيا، بقيادة جورج لودفيغ جوشوم، ووليم كمبف على البيانو. كما اتفقت مع فرقة "الكوميديا الفرنسية" التي سبق ولعبت على مسرح باخوس، وتمّ التعاقد مع فرقة "مسرح الهواء الطلق" البريطانية. افتتح المهرجان في 28 حزيران 1956 في حضور عرّابَيه كميل وزلفا شمعون، وشكل هذا الافتتاح بداية لانطلاق "حلم بعلبك" وازدهاره. رافق جان كوكتو فرقة "الكوميديا الفرنسية" التي ضمّت يومها النجمة الصاعدة جان مورو. بعد العرض، قُلّد كوكتو وشاح الأرز، وكتب بعدها في مديح بعلبك: "أليست سطوح بعلبك التي تكتنفها الأسرار، حيث يُظَنّ أن الرجال كانوا يغادرون إلى النجوم، أليست هذه السطوح هي المكان المثالي لتحليق أرواح الشعراء؟".
تجدد اللقاء في العام التالي، وحمل المهرجان هذه المرة نكهة محلية مع تخصيص ليلة للفولكلور اللبناني. أعدّ برنامج تلك الليلة الأخوان رحباني مع زكي ناصيف وتوفيق الباشا، وأسندت مهمة الإخراج لصبري الشري. افتتحت فيروز الليلة اللبنانية، وغنّت "لبنان يا أخضر حلو" وباتت منذ ذلك الحين نجماً يضيء في سماء بعلبك. تهيَأت هذه المجموعة لتقديم برنامج جديد في العام التالي، غير أن الأحداث التي شهدها لبنان في ذلك الصيف غيّبت المهرجان، وتجدّدت "الليالي اللبنانية" في صيف 1959 في برنامج يحاكي البرنامج الأول، وباتت الليالي جزءاً لا يتجزأ من تاريخ المهرجان. إلى جانب العروض العالمية المتعددة، دخلت أم كلثوم بعلبك، وأحيت في معبد جوبيتر ست حفلات حصدت نجاحاً فاق كل التوقعات. قدّمت كوكب الشرق حفلتين في العام 1966، وحفلتين في 1968، وحفلتين في 1970، وعرفت هذه الحفلات إقبالاً جنونياً. جاء الجمهور من العالم العربي أجمع، وحتى من مصر، واستمر بالتدفق على رغم الاعلان عن بيع كل المقاعد. تجمع الناس خارج القلعة في المقاهي والبيوت المجاورة، وباتت المدينة كلها قاعة حية احتشد فيها الجمهور للاستماع إلى سيدة الطرب العربي.


طرائف وحكايات
عرفت مي عريضة خلال تلك السنوات بعضاً من أشهر فنّاني القرن العشرين، وكان لها معهم حكايات لا تُنسى. جاء عازف البيانو الأوكراني سويتسلاف ريختر من طريق البحر، كونه يكره ركوب الطائرة، وحلّ في فندق الكارلتون حيث استقبل استقبالاً ساحراً ترك في نفسه أثراً كبيراً. بعده، وصل عازف التشيللو مستيسلاف روستروبوفيتش، وركبت مي معه طائرة الهليكوبتر التي قادتهما مباشرة إلى بعلبك، وذلك لأسباب طارئة تتعلق بالمواعيد الزمنية المقررة. أغرم ريختر بلبنان، وشارك مجاناً في حفلة إضافية قدّمها لصالح "الشبيبة الموسيقية" في الكارلتون، فاضطرّ إلى ركوب الطائرة لهذا السبب، وطار إلى جنيف حيث كان مرتبطاً بعقد آخر. تذكر مي عريضة التينور رومانو روما الذي لا يخرج إلى المسرح قبل أن يأكل قطعة من البطيخ، وتذكر المغنية الأميركية الثورية جون بايز التي رفضت الغناء قبل خروج سفير بلادها من الصالة، وتذكر كيف عاد هذا السفير الى بعلبك لمناسبة أخرى، وصعد إلى المسرح، وقال: "بعد خمس دقائق، سيكون نيل ارمسترونغ أول انسان تطأ قدماه سطح القمر". تذكر لوي أراغون وهو إلى جانبها عند تقديم موريس بيجار عرض "مجنون إلسا". كان ديكور العرض يومذاك يقتصر على بساط من هنري ماتيس، واحتار الراقصون في كيفية منع هذا البساط من الطيران بسبب هبوب الريح. كان ذلك عند تقديم آخر عروض بعلبك قبل أن توقفها الحرب المقبلة. ظلت مي عريضة على صلة وثيقة بموريس بيجار، وتذكر اليوم قوله لها وهو على فراش الموت: "مندثرةٌ هي المدن حيث نعيش. أما بعلبك فباقية".


لبناننا الغالي
تتحدث مي عريضة بحسرة عن صباح، وتستعيد أغنيتها: "يسلم لنا لبنان جنة امانينا/ من غفوة الوديان لصحوة روابينا/ مهما تنازعنا وعطشنا وجعنا/ لبناننا الغالي ع محبته ربينا". تسكن مي عريضة شقة في بناية تحمل اسم صباح. بنت الشحرورة هذه البناية، وكانت تسكن الطبقة العليا، وتؤجر الشقق الست الأخرى، واضطرت بعدها إلى بيع هذه الشقق. كانت صباح كريمة ومعطاء، واختلست منها احدى شقيقاتها مليون ليرة سنة 1966، وذلك بعدما زوّرت امضاءها على شيك بهذا المبلغ الذي كان يعادل ثلاثمئة وثلاثين الف دولار. في تلك الأيام، كانت صباح "تذبح بظفرها"، ورفضت مرةً استقبال الرئيس شارل حلو في مقصورتها، وذلك بعدما رفض الأخير من قبل تخصيص موعد زيارة طلبته منه.
تتلاحق الذكريات وتتراكم. تروي مي عريضة كيف عملت نائبة لرئيسة هيئة عيتا الشعب التي أنشئت عام 1960 بهدف مساندة لبنان الجنوبي. تتذكر حرب 1967 وما تبعتها من كوارث، وتتوقف أمام صعود لبنان في تلك المرحلة، ثم سقوطه في منتصف السبعينات. تذكر جورج شحادة ومسرحية "مهاجر بريسبان" التي قُدِّمت في بعلبك مرتين، بالفرنسية عام 1966، وبالعربية عام 2004. يقول شحادة في المسرحية "صحنٌ من فضة هو القمر، دائم الانكسار". في كل مرة، يضيف نبيل الأظن، كان القمر يخرج من جحره الأسود عند قول هذه العبارة. "ينكسر لكنه يتكوّن من جديد، ويعود. تلك هي حال المهرجان. وتلك هي حال لبنان".

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم