السبت - 27 نيسان 2024

إعلان

معرض - "أمبراس" عن الصحة النفسية في "زيتونة باي" الفنانون كمرضى يبدّلون أسرّتهم غير النظيفة

روجيه عوطة
A+ A-

في سياق الحملة التي تطلقها "أمبراس"، أو "شبكة دعم ونشر الوعي حول الصحة النفسية في لبنان والشرق الأوسط، بالتعاون مع قسم الطب النفسي في المركز الطبي في الجامعة الأميركية في بيروت"، انعقد أخيرا معرض تشكيلي، يحمل الإسم نفسه، في "نادي اليخوت"، داخل "الزيتونة باي". المنظّمان، الطبيب النفسي زياد نحاس، والفنان آراد أزاد، أخذا على عاتقهما، تقديم أعمال فنية، تعنى بـ"المرض" البسيكولوجي وأعطافه من جروح، وشقوق، وتصدعات، تدرك الجسم من الداخل ، أو تصيبه من الخارج. إذ تضطرب أعضاؤه، وتخلّ في وظيفتها، متسببةً بأعراض الكدمة، على الجلود وتحتها، أو التفسخ، في الإدراك وجهازه الحسي. تالياً، يهتز اللاوعي، ومع حاله هذه، تختلج صوره، وتتقبض لغته عن محيطها الدلالي، حتى ينفصل المتكلم بها عن واقع العموم، منكفئاً على وقعات الخصوص، بحيث ينصرف إلى التعبير عنها، والتدليل عليها.


على هذا الأساس ، ينتج اللاوعي صوراً مشتتة، تظّهر رغباته الأصيلة، وتكشفها باللامألوف، وغير المستقر. في النتيجة، يستحيل اللاوعي معملاً، بعدما كان "عضواً" نازّاً، فلا يعود المرض سلبيا، بل يصير عِوضاً إيجابياً، صلته الفورية بالحياة، تساوي علاقته المفتوحة مع الموت، وهذا ما يصيّره متوازناً. هنا، يصبح العطب سبباً للبقاء على قيد التصنيع، فهو الآلة، التي تجزّئ وتصهر وتركّب. كل خلل يصيبها، يؤدي إلى تعطيلها، أو إفساد إنتاجها. لكن، كلما فسدت علامات العطب، احتكت بالراسخ فيها أكثر، أي بلغت حقيقتها، كأنها لم تنحل أو تضعف. ذاك، أن المرض هو الحقيقة، أما الصحة، فتفسير لها. المريض هو، في الواقع، السوي الوحيد.


خطاب الفنّ
يشتد حضور "المريض المنتج" في مقلب آخر، هو خطاب الفن، الذي تجتاحه مقولة نافذة، تربط بين الخلق من جهة، والمرض، على أنواعه وأشكاله، من جهة أخرى. فالفنان يعاني ويتألم ويكابد على الدوام، كما لا يصدر إنتاجه سوى عن وعكة أو عارض فيزيو نفسي. تحت وطأة هذه المقولة، يلجأ بعض الفنانين إلى تصنيع أمراضهم، أو إلى افتعالها في بعض الأحيان، كي يظل خلقهم مستمراً. على هذا النحو، يبدو المرض أول منتج فني، لأنه شرط حضور صاحبه المتوعك، قبل أن يتحول إلى إيديولوجيته، التي تعلن، على الطريقة البودليرية، أن الحياة مستشفى واسع، ولا رغبة لنزلائه سوى في تبديل أسِرّتهم.
من هذه الناحية، تستند حملة "أمبراس" إلى "العقدة" الراسية بين المرض والفن، كي تطلق معرضها، الذي شارك فيه عشرون فناناً، يزاولون الرسم والتصوير والفيديو إلخ. بغاية "فك عقدتهم" من خلال الفن، ومن ثم، مقاسمة منتج "الفك" مع الآخرين، الذين يعانون من الداء البسيكولوجي بالتستر والكتمان، نتيجة الإحتقار المجتمعي السائد حيال المريض النفسي. فالأعمال الفنية، التي "يحتضنها" المعرض، تتحدى هذا السائد، وتثبت للقائلين به، أن الفنانين مرضى، وأن في مقدور المرضى أن يعبّروا، كما من حقهم أن يكونوا فنانين. من الممكن أن يحل الفن مكان المرض، بحيث يصير جزءاً من الحياة، تبرره ويبررها، كما يتوسط بينها وبين الموت، الذي يتخفف من صفاته الشائعة، على أنه نهاية، ويتكشف ابتكاراً، وخلقاً. فكل شخص يقدر على الموت، في امكانه أن يمرض، أن يبدع، أن يصير فناناً.... يعني أن يموت أكثر.


"أمراض" فنية
كلٌّ من الفنانين، في معرض "احتضان"، يوضح "عقدته" الخاصة، ويحاول وصفها بوسيلته الفنية، من دون الركون إلى حلّها، ولا سيما أنها مكمنه، وملجأه من ذاته. يفر الفنانون من عقدهم بعقدهم، وإثر فرارهم هذا، يقدمون معادلاتهم، التي تتعلق بتمثل الأعطاب على الجسم والأعضاء. صحيح أن المرضى بلا أسماء، لكن، من نافل التأكيد، أن أمراضهم ليست متشابهة البتة. لذا، تنفصل الأعمال بعضها عن البعض الآخر، وفي الوقت نفسه، تندرج في سياق موضوعاتي واحد. إلا أن الفن، وخلفه خطاب المعاناة الدائمة، يحول كل عرض من عروضه إلى معاينة طبية، ترصد وجعاً، وتبحث عن وعكة.
ماريا كسّاب تفصل في تصويراتها الكولاجية، الرؤوس عن الأجساد، وتستبدل الأولى بالثانية، حتى يصبح الجسم مضاعفاً، أي عبارة عن كتلتين غير رأسيتين. ذاك، أن الجسد هو فانتاسم الرأس العمودي، وقد يكون مرد هذه المعادلة إلى رغبة صاعدة، لكنها، لا تتحقق بسوى قطعها. "مرض" كسّاب، أي فنها، يستوي على مكبوت "طاهر"، أو "عادي" تحديداً، بحيث أن التعري، الذي يعلو اللباس الذكري، يبدو في وضع هادئ، وبريء، كأنه لم يزح جسداً تحتانياً. هنا البراءة سببها التواطؤ المفاجئ بين اللباس والعري، من ناحية، وغياب الرأس، الذي يشير إلى تعسر الرغبة في بلوغها، من ناحية أخرى. كما لو أن العنف الطاهر، في كولاجات كسّاب الفوتوغرافية، صادر عن عقدة تفيد أن الفنانة تحاول بلوغ لذة معينة، غير أنها، في كل مرة، تتكدر، وتتراجع، ولهذا السبب، تقطع رأس رغبتها، وتكتفي بمشهد جسمي غير ناجز. الحل؟ عند كسّاب، الفضاء هو الحل.
الرسامة ناديا صفي الدين، التي تظهر الأجساد المنفوخة في لوحاتها كأنها تتعرض لانفجار داخلي، سببه أن الرغبة لا تخرج من تحت الجلود، إلى "فضاء" آخر، بل تظل مكتومة تحتها إلى حين بزوغها المتشظي. وهذا ما يفضي إلى تغليظ اللون، الذي كلما اشتد، مثل اللحم المتطاير أكثر، ليغطي ملامح الوجه والجسد. مع النظر إلى اللوحة من مسافة فاصلة، من الممكن الوقوع على وجوه مختلفة في الرسم، يؤلفها اللحم المنشطر، فتضيع الحدود بين داخل الجسم وخارجه.
لا تجد معادلة صفي الدين، التي تفيد أن الوجه هو انفجار الرغبة، منفذاً إلى لوحات الفنان رفيق مجذوب، التي، مثل صاحبها، لا تكترث إلى رغباتها الوجهوية، رغم أنها تتضمنها بكثرة. فمجذوب، الذي يثبت ذاته بالبراغي والغربان، يهشم البورتريهات ويشخبط الملامح، غير مبالٍ بالأسباب الواقفة وراء فنه. الفنان سمعان خوام، يبين العلاقة بين الوجه والجسد من خلال طريقة مرضية أخرى. إذ تبدو الوجوه التي يرسمها كأنها تمثل الجسد بأكلمه. ففي مقدور الوجه أن يكون أي عضو من الأعضاء. فمرةً يشبه الكلى، ومرات يتخذ شكل ضرس، وحيناً، يماثل القلب، وأحياناً عين، أو أذن. إذاً، الجسد في لوحات سمعان يساوي الوجه زائداً المسافة المأخوذة منه.
تتداخل العقد الفنية، وتتفاوت في معرض "أمبراس". الفنانة ريم الجندي، تخفي تمزقات المشهد اليومي بالألوان البيتية، والصلات المرهقة. على خلاف تمزق الأقمشة الملونة في لوحات الراحلة آني ختشاريان. ريتا سعادة تصوّر الضلال بين الحديد، وتخففه بالماء. جيلبير الحاج، كاميرته تثبت نظرات السهو والإرتطام. قبلان سماحة، يشطب المكان إلخ. هؤلاء، وغيرهم من الفنانين، يقدمون معادلاتهم النفسية في قاعة من الباطون المسلح، أي في مكان مغاير للغاليري كلياً، كما أنه لا يشبه المستشفى، بترتيبه أو نظافته، بل بأمراضه فقط. أما، نحن، الذين لا أسرّة لنا في هذا المكان، فنجد أنفسنا نحدق في المرايا المعلقة في هذه الزاوية أو تلك. بين كل هذه الأمراض، المرآة هي سريرنا الوحيد.

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم