الجمعة - 26 نيسان 2024

إعلان

"رسالة حبّ" حوار عن اللاحبّ أيضاً

رلى راشد
A+ A-

يشكّل عرض "رسالة حب" المسرحي حالا طقسيّة بالمعنى الكامل، حيث يجري اخضاع الكلام والحركة وفسحات الصمت، لترميز رفيع. كانت الحرب الأهلية والحقبة الفرنكوية التي تلتها داء لا براء منه بالنسبة للكاتب الإسباني المنفيّ طوعا إلى فرنسا فرناندو أرابال، ويتبدّى أنطوان الأشقر الذي أخرج العمل وأعدّه قادرا على ردم الهوة الفاصلة بين الحيثيات الجغرافية والزمنية والواقع المحلي، ليصير سقم الكينونة الإسبانية كما امتهنه الكاتب في أعماله، سقم كينونة اللبناني أيضا، على نحو ما.


لطالما كان فقد الوعي الشخصي والتاريخي على السواء، ذريعة أرابال التأليفية، فاستعان بالبعد الجمالي ليرفّع إغترابه الباطني، ما يجعل نصه قابلا للتطويع خارج سياقه. ولأن أرابال مؤلف مسرحي من صنف المتألمّين، يلامس نصه "رسالة حبّ" الحوار عن اللاحبّ أيضا. تقوم ذريعة العرض على تلقيّ إحدى السيدات في عيد ميلادها رسالة بعث بها ابنها بعد قطيعة. في الشكل، الرسالة محاولة الإبن لإعادة الإتصال المفقود مع والدته منذ كان في الثامنة عشرة، أما في المضمون فسعي لإذابة الشمع الأحمر عن المسكوت عنه. يرتاب الإبن من والدته ويشكّ في تورطها باعتقال والده على خلفية الحرب الأهلية الإسبانية، فتغدو الرسالة إستجوابا متصلا بمصداقية البناء الأسري، بل وبالحدود الفاصلة بين الحقيقة والوهم.
تلائم القاعة الصغيرة في "مسرح مونو" عرض "رسالة حب" (المستمر الى العاشر من تشرين الثاني)، ذلك ان ضيق المساحة لبىّ حميمية تلتصق بنص نواته صلة رحم مركّبة بين أم (رلى حمادة) وابنها (جاد خاطر)، وامتدادا بين الممسك بالسلطتين العاطفية والعملية وبين الخاضع لها. العرض على شفا المسرح المُختبر، بفضل غياب المنصّة بمعناها التقليدي والتقشّف والإكتفاء بأنوار محكمة الضبط من دون إسراف. المكان عار خلا من شبه طاولة تصير مرتع الخيال. تستريح فوقها فكرة قالب حلوى عيد الميلاد، أو تصير منصة لمحو الحدود بين السماء والأرض، فتأخذ الأم بابنها (يسمّيها أم الآلهة سيبيل، أي ابنة السماء والأرض، للمفارقة) الى فضاءات التعلق الهجسي، أو سريرا تسكب فوقه الأم هلوسات اليقظة.
الخصومة-الشغف بين الأم وذريّتها رديفة الصدام بين فتنة الطفولة البريئة وبين السلطوية البالغة. والحال ان حمادة في هيئات مختلفة، الأم المغناج والمستبدة والمتواطئة والمشرفة على الإنهيار، صاحبة حضور آسر، وفي يدها مفتاح بوابة الذاكرة. ليس مجانيا تاليا أن تقول "خلقنا من لحم الذكريات" أو "أنا مخيلتك، علبة ذكرياتك". في الموازاة ابن طيفيّ يتفاوت انخراطه في لعبة الحقيقة الواهمة. ها إنه بعيد ثم أكثر قربا، أو متماهيا مع والدته، في لحظة عناق على نسق لوحة رامبرانت "عودة الإبن الضال". رغم الإبقاء على بعض الإحالات إلى البيئة الإسبانية لا مفرّ منها، ينجح الأشقر في لبننة نص أرابال في عامية تجعله يدنو من انفعالاتنا وتجربتنا الجماعية.
في "رسالة حبّ" واقعيّة مطعّمة بعنفيّة وصفية تصل الذروة في مجموعة صور تتوالى على شاشة خلفيّة. ها هنا مجموعة من كليشهيات الحرب الأهلية الإسبانية بالأبيض والأسود، وأطراف بشريّة تستبيح لوحة "غرنيكا" الى جثث معلّقة بالشجر تتدلى من لوحة غويا "نكبات الحرب". يجعل التوليف السريع الصور تعذيبا بصريّا لتشكّل مرادفا لتلاطمات السيدة الذهنيّة. والحال ان استدعاءها المتكرر لإبنها "يا حبيبي يا أمي قديشك بعيد عني"، معطوفا على سيناريوهات عدة للحظة تلقيها الرسالة وطريقة تسليمها، كان أمعن أساسا، في تشويش خطوط اليقين.
يدخل عرض "رسالة الى الأم" عالم سيدة تحاول ترتيب فوضاها الداخلية والأخرى الزمنيّة أيضا. حاضرها خيال فحسب، أما واقعها فالماضي والمستقبل.


 

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم