الجمعة - 26 نيسان 2024

إعلان

الواقع المزري للتعليم في لبنان: لو نعرف!

المصدر: "النهار"
علي خليفة -أستاذ في كلية التربية في الجامعة اللبنانية
الواقع المزري للتعليم في لبنان: لو نعرف!
الواقع المزري للتعليم في لبنان: لو نعرف!
A+ A-

لا يمكن أن يكون التعليم بخير في مجتمع يشهد فشلًا في إدارة مؤسسات الدولة وترنّح النظام السياسي وانحلال منظومة الأخلاق. لماذا؟ قدّم إميل دوركهايم بعض الشروح من ضمن سياق سار على هديه علم اجتماع التربية، وفحواها أن المؤسسات التربوية في مجتمع معيّن، في زمن محدّد، تشكّل جزءًا من نظام عام، فتعبّر عن أفكاره. وذهب لويس آلتوسير إلى أبعد جاعلاً من مؤسسات التعليم وسائط إيديولوجية خطيرة بيد النظام السياسي القائم. وحذا حذوه مايكل آبل موسّعًا دائرة انعكاس العوامل السياسية على التربية لتشمل التوجهات الاقتصادية والاجتماعية وفرض أنماط الوعي التي يتطلّبها البناء الاجتماعي الطبقي في المجتمع. ودونما إسراف أكثر في استعراض ما ورد بريشة فلاسفة التربية، خلص براونسلي إلى كون التطوير التربوي في المجتمعات الأكثر ليبرالية، ناتجًا عن التقاء مصالح النخب الاقتصادية التي تحمل التمويل مع أجندات المقرّرين السياسيين التي تترجمها مناهج التعليم...  

المجتمع المنخور بالطائفية

في لبنان، المجتمع المنخور بالطائفية والفساد، والمحسوبية والزبائنية، والغلو والعصبية، وغياب الوعي الفردي وضعف ثقافة الشأن العام، نظام التعليم صورة طبق الأصل عن كل ذلك، وما ادّعاء العكس وكَيْل المديح للنظام التعليمي القائم، على اختلاف فئات المدارس، سوى من قبيل الفولكلور الشعبي بحقائقه الزجلية أو من ضروب التمنّي على أحسن تقدير.

فعلى مدى قرون ساد احتكار الطوائف الدينية والإرساليات للمؤسسات التعليمية. نسمّي ذلك حريّة، وهو أقرب إلى الفوضى. ثم خلال قرن تقريبًا، تغيّرت مناهجنا التعليمية ثلاث مرات (1946، 1971 و1997)، عقب تغيّرات سياسية أو صدامات أو حروب أهلية وليس بنتيجة دوافع بنيوية تأخذ بالحسبان التطوير الفعلي على المقاربات التعليمية- التعلمية.

تنازع رهيب

ومراكز القرار التربوي عندنا في تنازع رهيب للصلاحيات، فكأن لكلّ منها منطقة صيد للمصالح والنفوذ: وزارة التربية لا يتبوؤها متخصص بالتربية، إلا في ما ندر؛ المركز التربوي وزارة ظلّ تختلف أو تتآلف مع سلطة الوزير وفق تقلّب أرصاد السياسة وتوزيعات مغانمها على امتداد الحقب، التفتيش التربوي لا هو بكاف في عديده ولا صوّر المفتشون التربويون نظرتهم لمهماتهم فظلّوا لا يفهمون ماذا يفعل جهاز الإرشاد والتوجيه، والعديد من المرشدين لا يفهمون أصلاً ماذا هم فاعلون... والكل جميعًا "بالتربية يبني" (قصورًا في إسبانيا!). يرأس هذه المؤسسات، في الغالب، موظفون مترددون، بلا ملامح ولا إرادة، لا يملكون وضوح الرؤيا ولا اكتمال النظرة إلى التطوير، ومنتفعون معهم يستحوذون على المشاريع التربوية المختلفة التي يتقاسمون ريعها المادي مع المحظيين والمقرّبين، دون أدنى دراسة جدية للأثر المرتجى وللمنفعة المتوخاة.

المدارس الرسمية لم تعد للتلامذة، كما يقول عدنان الأمين، بل أمكنة للتوظيف بيد السياسيين الذين أقصوا كلية التربية عن دورها في إعداد معلّمي المدارس الرسمية، فانتشر التعاقد بالساعة لتمرير توظيف الأزلام والمحسوبين، وأصبح التثبيت بنتيجة المباراة المفتوحة أو المحصورة، ما يضرب آليات الإعداد والتدريب. والسائد أن المدارس الرسمية لم تشكّل شبكة بناء الهوية الوطنية الجامعة والإندماج الاجتماعي، بل تم إهمالها عمدًا ومحاربتها علنًا وجعلها مدارس لطوائف محدّدة في البداية ثم لفئات اجتماعية (مدرسة الفقراء) وصولاً اليوم إلى اقتصار دورها في شكل أساسي على استيعاب أطفال اللاجئين السوريين إلى لبنان. وعن تعلّمهم في المدارس الرسمية لم يسأل سائل، بل جرى تبديد الأموال بإسمهم وأديرت الإنتفاعات على ظهورهم من قبل صغار الموظفين الذين أصبحوا بين ليلة وضحاها ما دار في خلد ضفدعة لافونتين. والأطفال السوريون لسان حالهم أن السنوات مضت من دون أن يكتسبوا المعارف والمهارات المطلوبة وفق منهجنا وعلى أيدي بعض معلّمينا ومديري مدارسنا الذين ينعتونهم بأبشع الصفات وأقذع العبارات خلال دوام بعد الظهر وكل همّهم عدّ الساعات وتدوير الأرباح.

السواد الأعظم 

في المقابل، هل صحيح أن المدارس الخاصة في لبنان متطوّرة وتعمل في ضوء التربية الحديثة وذات فعالية وأداء تلامذتها مرتفع؟ كلا، قلّة قليلة جدًا من المدارس الخاصة فقط هي كذلك، والسواد الأعظم منها في المقلب الآخر. تعلّم المناهج الرسمية نفسها الرثة في الكتب المدرسية الغارقة في الحشو والممتلئة أحيانًا بالمفاهيم الخاطئة، وأساتذتها يعلّمون بمعظمهم في القطاع العام، ولكن إدارات هذه المدارس تحسن بيع ما تقدّمه المدارس الرسمية بالمجان لأنها تتقاضى رسوم تسجيل عالية لجذب الإنتباه إلى مستوى تعليمي لا يعكس البتة واقع الحال.

مراتب متدنية

أخيرًا، لنذكر بعض الحقائق التي لو كنّا في مجتمع حيّ ضنين بمستقبل أبنائه، لما كانت لتمرّ مرور الكرام: أداء المتعلمين اللبنانيين، من مختلف فئات المدارس، ضعيفٌ جدًا بالمقارنة مع أقرانهم في العديد من دول المنطقة العربية والعالم. يحل لبنان في مراتب متدنية جدًا في اختبارات برنامج التقويم الدولي لأداء المتعلمين PISA، وكذلك الأمر في امتحانات الـ (TIMSS) العالمية، حيث يبقى أداء المتعلمين اللبنانيين دون المعدل الوسطي. وبالتالي تعكس هذه الإختبارات وغيرها واقع التربية والتعليم المتردّي اليوم في لبنان.

انتظار غير ذلك مستحيل من وجهة نظر علم الاجتماع التربوي الذي يربط حال التربية بحال السياسة والاقتصاد والاجتماع. الأمر مفهوم من قبل المتخصصين في التربية والباحثين، وإن كان غير معلوم على نطاق واسع، ولكن التسليم بهذا الأمر جريمة، ومحاولة نكرانه جهلٌ مطبق.


الكلمات الدالة

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم