الجمعة - 26 نيسان 2024

إعلان

كانّ ٧١- البابا فرنسيس في فيلم فيم فندرز: الكنيسة ليست NGO

المصدر: "النهار"
كانّ ٧١- البابا فرنسيس في فيلم فيم فندرز: الكنيسة ليست NGO
كانّ ٧١- البابا فرنسيس في فيلم فيم فندرز: الكنيسة ليست NGO
A+ A-

البابا فرنسيس مادة بصرية وسينمائية في فيلم المخرج الألماني الكبير فيم فندرز الذي عُرض مساء الأحد في #مهرجان_كانّ السينمائي الحادي والسبعين (٨ - ١٩ الجاري). من خلال أفلام وثائقية عدة، بدءاً من "بوينا فيستا سوشل كلوب” عن الموسيقى الكوبية وصولاً إلى بورتريه المصوّر الكبير سيباستياو سالغادو في "ملح الأرض"، قدّم فندرز سلسلة من المقاربات الرصينة للفنّ انطلاقاً من رؤيته الخاصة له، وليس أقلها أهمية رائعته التي صوّرها بالأبعاد الثلاثة عن الراقصة والكوريغرافية بينا باوش.  



هذه المرة الأولى التي يهتمّ فيها فندرز بمرجع روحي كالبابا، بعدما تجاوز السبعين وهبّت رياح من القداسة عليه، هو الذي تربّى في كنف الكاثوليكية قبل ان يختار البروتستانتية. أتمم مشروعه بإمكانات ضخمة خوّلته مرافقة عدد من زيارات البابا في أماكن عدة من العالم، من فافيلات ريو دي جانيرو إلى المسجد الأقصى مروراً بمستشفيات الأطفال المرضى في افريقيا.


الفيلم ممتاز في اطروحته ومعالجته والرؤية التي يقدّمها عن الإيمان والكنيسة والإنسان والله، ذلك انّ خلفه يقف رجلان يمكن التعويل عليهما ليخرجا بشيء تنويري. صحيح انّ فندرز بذل الكثير من الجهد ليخرج بخطاب جريء له نكهة سينمائية، الا انّ نجم الفيلم الأول هو البابا نفسه الذي يسحب البساط في أكثر من محل من تحت أقدام المخرج. انه البطل الأوحد لهذا الفيلم. ورغم ان الفاتيكان هي التي اقترحت على فندرز إنجاز الفيلم، فلم يفلت من سيطرة المعلم الألماني الذي يقول انه أُعجب بالحبر الأعظم منذ طلته الأولى على شرفة كاتدرائية القديس بطرس.

منذ البداية، يتبنّى الفيلم خيار القيام بتقارب بين تجربة البابا من جهة وتجربة القديس فرنسيس الأسيزي، رسول الفقر والتقشف و”الناشط البيئي”، الذي يعيد الفيلم احياءه في مشاهد بالأسود والأبيض كأنها خارجة من فيلم صامت. يجب التذكير ان فرنسيس هو أول بابا يختار هذا الاسم، وليس بالمصادفة. فالرجلان يؤمنان بعقيدة واحدة تنبذ كلّ أنواع الترف وتدعو للعودة إلى الطبيعة.

بيد ان أهم ما في الفيلم هو أقوال البابا ووضوح أفكاره ومواقفه سواء المتعلقة بالمثليين (مَن أنا لأحاكمهم؟”) أو البيدوفيليا عند الرهبان أو قضية اللاجئين، وكلها أفكار يمكن وصفها بالثورية في مؤسسة دينية عمرها مئات السنوات، مهترئة وتحتاج إلى تحديث جذري. فالكنيسة التي ترى في المال أملاً، يشبّهها البابا بمنظّمة غير حكومية. فهو يدعو إلى كنيسة فقيرة للفقراء، كون “الفقر هو من صلب الأناجيل”. مراراً، يغمز البابا من قناة الإنسان الغربي الغارق في المادية والأنانية والزمن السريع. انه هذا العالم الذي أصابه الصم حيث نتكلم كثيراً ونستمع قليلاً، ما يزعج البابا. يلحّ على ضرورة ان يهتم الأهل بأولادهم ويسأل: “متى آخر مرة لعبتم مع أولادكم؟”، مستغرباً ان يتحوّل الإنسان إلى آلة.

لا يترك الفيلم أي مجال للشك حول ماركسية البابا، رغم نفيه السابق لهذه “التهمة”. فهو لا ينتقد الكنيسة فحسب (ذاكراً أحد أقول المسيح: “لا تعبدوا ربين…”)، بل يتعامل في معظم خطبه مع أمور عملية هي شؤون يومية، مثل ضرورة تأمين فرص العمل، كإحدى أهم القيم التي تحفظ الكرامة البشرية. لا يخفي البابا معاداته الرأسمالية وبيع الأسلحة: “لنقل لا لمنظومة مالية تستعبد الإنسان بدل ان تخدمه”. يدعونا إلى عدم الخوف من كلمة ثورة، وهو ينظر في الكاميرا، أي في عيني المُشاهد، ولا يخشى الاعتراف بأنه لا يملك جواباً يشرح موت الأطفال، ثم يذكر قولاً لدوستويفسكي.


لكلّ الأسباب المذكورة، يرى فندرز انّ البابا هو أفضل ما حدث للكنيسة منذ قرون، لإدخال هذه المؤسسة في القرن الحادي والعشرين. لا ينشغل الفيلم كثيراً بالمسيحية كدين وتعاليم، فقناعات البابا تكفي وتفي في هذا المجال. ويدرك الأخير جيداً ان العلم يخدم البشرية أكثر من أي عقيدة، والخلق على النحو الذي جاء في النصوص المقدّسة هو شكل ميثولوجي، والكوكب ارث لا يجب الافراط به.

هناك شيء في المشروع يتماهى مع فحوى الفيلم نفسه: ألماني ينجز فيلماً عن البابا الفاتيكاني الذي من أصل أرجنتيني بتعليق صوتي فرنسي وأموال سويسرية وتوزيع أميركي. وبالطبع، بعض الصحافة الغربية التي تنتهج السينيكية المجانية كخط تحريري، سترمي الحجارة في بئر الرجلين، بلا أي اعتبار لأهمية ما يُقال في زمن سقوط كلّ المرجعيات الأخلاقية و”عولمة اللامبالاة” ولدور البابا في بثّ الروح في جسد ميت.




حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم