الجمعة - 26 نيسان 2024

إعلان

ايرمانو أولمي يوم حاورته “النهار”: هناك أماكن أخرى تنتظرني

المصدر: "النهار"
ايرمانو أولمي يوم حاورته “النهار”: هناك أماكن أخرى تنتظرني
ايرمانو أولمي يوم حاورته “النهار”: هناك أماكن أخرى تنتظرني
A+ A-

ذات يوم متوسطي مشمس من عام ٢٠٠٦، نُظِّم لنا لقاء مقتضب (عشرون دقيقة ضاع نصفها في الترجمة من الإيطالية الى الإنكليزية) مع السينمائي الإيطالي الكبير ايرمانو أولمي، نعيد نشره هنا في مناسبة رحيل أولمي الإثنين الماضي عن ٨٦ عاماً. حدث اللقاء في مهرجان كانّ حيث نال "السعفة الذهب” عام ١٩٧٨ عن فيلمه "شجرة القباقيب". رغم ان عقارب الساعة كانت تسابق الوقت، والجواب بالكاد يتجاوز حجم السؤال، حافظ اللقاء على شيء من رونقه وشرارته ودفئه الإنساني، وذلك لكاراكتير أولمي اللطيف، وطيب قلبه وانفتاحه على جيل الشباب الطامح لمعرفة المزيد عمّا يدور في رؤوس بعض عمالقة السينما، وهو بالتأكيد واحد من آخر هؤلاء المحنّكين. بدا أولمي خارج الزمان الراهن، بالأحرى خارج كلّ الازمنة، فعرّب عن المرارة التي يشعر بها حيال السينما، لأنها، بحسبه، تستوحي حقيقتها من ذاتها وليس من الحياة التي يفترض أن تغذي الفنّ.  

وسط البهرجة الإعلامية الطاغية، بدا أولمي كأنه لا ينتمي إلى مهرجان كانّ الذي ساهم في ذيوع صيته قبل ربع قرن من تاريخ اللقاء. لعل هذا الشعور جاءه بعد الاستقبال الفاتر الذي ناله فيلمه “سنتوتشيودي”، ما جعله يحس بأنه لم يعد له مكان تحت الشمس في أمكنة كهذه، وبأنه ينتمي إلى زمن آخر.

أولمي أحد كبار السينما الإيطالية، والوارث الأكثر جدارة لـ"الواقعية الإيطالية الجديدة". رغم ذلك كله، يظلّ "ابن الأرض"الذي نقل معه غبار الأرياف ورائحة التراب إلى سينماه. يتحدر من عائلة ريفية متواضعة. بعد التحاقه بمعهد الفنون الجميلة، ثم متابعته دروساً للفنّ التمثيلي في ميلانو، دخل موظّفاً عادياً إلى شركة كهرباء "اديسون - فولتا"، وسرعان ما كُلّف تنسيق النشاطات الترفيهية للعمال في هذه الشركة التي منحته فرصة إنجاز أفلام وثائقية قصيرة بالـ٣٥ ملم، بين عامي ١٩٥٣ و١٩٦١. في أفلامه تلك، أبدى أولمي اهتماماً بالأعمال الحرفية، سواء في البيئة الريفية أو المدينية.

عام ١٩٥٩، خرج أول فيلم طويل من توقيع أولمي عنوانه "توّقف الزمن"، وفيه تناول بناء حاجز كبير في الجبال بالتزامن مع ولادة صداقة صعبة بين عاملين ينتمي كلّ منهما إلى جيل مختلف. لم يغفل المخرج الجانب البصري لعمله، لاجئاً إلى السينماسكوب ومنقّحاً الصورة ليكتسب عمله السينمائي طابعاً جمالياً يليق بالعراقة الإيطالية في هذا المجال. فيلمه الثاني، "الوظيفة" (١٩٦١)، يأتي امتداداً للأول بحيث يظل ملاصقاً لتيمة العمل، مصوّراً شخصيات يتبيّن انها ضحية المجتمع الاستهلاكي الذي كان يلوح في الأفق. اعتُبر الشريط شاهداً لمرحلة التحوّل التي عاشتها إيطاليا، وحظي بترحيب النقّاد. لكن هذه الحفاوة لن تتجدد لمناسبة شريطه الثالث، "الخطباء"، رغم ان الكثيرين اعتبروا أولمي القائد الجديد لموجة السينما الإيطالية التي نشأت في بداية الستينات.

طوال تلك الفترة، شغل أولمي نفسه بمجموعة أفلام وثائقية، كذلك انكبّ على الدراما التلفزيونية، إلى جانب نشاطه منتجاً. تمثّلت العودة إلى الشاشة الكبيرة بـ"ذات يوم"، قصّة خرافية في منطقة لومبارديا. أعاد هذا العمل إلى الواجهة أصوله الكاثوليكية. أما التكريس فجاءه بعد "شجرة القباقيب"، المستوحى من حكايات طفولته والذي باشر تصويره بعد فترة طويلة من التحضيرات. في هذه التحفة، أعاد أولمي الاعتبار إلى المنسيين وإلى الذين سقطت أسماؤهم سهواً من صفحات التاريخ: أولئك الذين تم استغلالهم في منطقة برغامو في القرن الماضي. تماهياً مع مبدأ الحقيقة التاريخية، جعل أولمي من هذه المنطقة مسرحاً لحوادث الفيلم، وشحن عمله بالانفعالات. تحولت مساعيه لإنجاز عمل صادق إلى انشودة، أو عملية بحث عن القيم الضائعة في زمن لم يعد يؤمن بشيء. تحفظ المخرج عن اختيار معسكره في إخراجه "الناتورالي"، متجنباً التزام وجهة نظر أحادية، ومقدّماً سلسلة متتاليات أشبه بلوحات تشكيلية.

انحاز أولمي إلى الموضوعات الميتافيزيقية والمسيحية، ولا سيما في فيلميه "في ملاحقة النجمة” و"اسطورة سان بوفور" الذي نال "الأسد الذهبي” في مهرجان البندقية عام ١٩٨٨، وكان هذا فيلمه الأخير له قبل أن يعبر نفقاً وجودياً طويلاً في الثمانينات والتسعينات بعد اصابته بمرض طالت عملية شفائه منه، وبعد خروجه من هذه المعاناة، سارع أولمي إلى كانّ حيث عرض "مهنة الأسلحة” عام ٢٠٠١.

لِمَ قلت ان "سنتوتشيودي"سيكون فيلمك الروائي الأخير؟

أشعر أني صرتُ عجوز جداً بالنسبة إلى مخرج، وأني شاب جداً بالنسبة إلى رجل. لذا قررتُ تغيير مهنتي والبدء في إنجاز الأفلام.

ما الذي كنت تفعله حتى الآن؟

كنت أنجز سينما تتناسب والحياة التي عشتها والأوقات التي أمضيتها. الآن، سأعمل على سينما تتماشى أكثر مع الحياة التي سأعيشها، أي القريبة من الحياة اليومية. في اختصار، أفضّل تصوير أفلام وثائقية بدلاً من أي نوع من الأفلام الأخرى. إذا ذهبتَ وجلستَ هناك (يشير بإصبعه إلى مكان محدّد) وبدأتَ تراقب الناس، سوف تكتشف العديد من القصص. هذا هو نوع السينما الذي يهمّني الآن العمل عليه. أي الأفلام التي تُفاجأ بالحقيقة، وليست تلك التي تختلقها.

يبدو لي انه خطاب مناهض للسينما…

(محتجاً بقوة) كلا، بالعكس، هذا هو الإخراج بذاته، لأنك إن أدرتَ الكاميرا في الإتجاه المعاكس، فستتمكن من تصوير فيلم جيّد. الأهم هو تعلّم المراقبة، الشيء الذي لم نعد نفعله اليوم. ان تنظر إلى الشيء من دون أي أفكار مسبقة. اذا نظرتَ إلى العالم الذي يحيط بك، وانتظرتَ، فسترى ان العالم يخبرك عن نفسه. هذه هي السينما!

لماذا لم تعد السينما الإيطالية تنتج أفلاماً مهمة كالسابق؟ أيكون ذلك بسبب غياب أزمة اجتماعية حادة؟

لأن السينما راحت تقتبس السينما، في حين يجب عليها أن تتغذى من الواقع وليس من ذاتها.

ما الذي يعني لك وجودك في كانّ، هذا المكان الذي أتيتَ اليه غالباً؟

هو وداع. أشعر الآن ان هناك أماكن أخرى تنتظرني. لم يعد هذا المكان يجذبني كما في السابق. الآن، أحبّ ان أعيش أكثر من ان أنجز الأفلام. في ما مضى، كنت أحبّ السينما أكثر من الحياة. الآن أراها نتيجة للحياة. لم يعد سهلاً بالنسبة اليّ ان أتشارك ما أشعر به مع أشخاص أصغر مني سنّاً على غرارك. لستُ أنفي وجود السينما، لكني أنفي فكرة معينة عن السينما. في كانّ، كما في مهرجانات أخرى، مثل البندقية، نرى نوعاً من السينما تتغذى من نفسها، كما كنت أقول سابقاً. وهذا شأن لم يعد يثير إهتمامي.

هل تشعر أنه المكان الأفضل لعرض فيلم أم أنه يضيع في خضمّ هذا الكمّ الهائل من الأفلام؟

لطالما منحني المنتجون الذين أعمل وإياهم الحرية الكاملة لأنجز الفيلم الذي أريده، وكانت لديهم الحرية في عرض أفلامي أينما شاؤوا. أعترف أن المهرجان هو أفضل مكان لعرض فيلم، لكني لستُ مهتماً فعلاً بهذا الموضوع. يبدو لي في بعض المهرجانات ان السينما لا تتغير، تأكل نفسها وتخسر من حيويتها وتقع في التكرار…

باعتبارك سينمائياً ناضل من أجل العدالة، ما رأيك في ما يحصل اليوم في العالم؟

عندما كنت أنجز فيلمي ما قبل الأخير المقتبس من حكاية صينية، كنت أستشير نفسي: سواء أكنا في الصين في القرن التاسع عشر أم في بغداد حالياً، نحن دوماً أمام الأسئلة نفسها: لماذا لا نتخذ السلام حلاً لنا؟ اليوم، أتساءل: هل يريد قادة العالم السلام حقاً، أم انهم يستغلون الحروب ليناموا على أمجادهم وغطرستهم وينتهكوا حقوقنا المدنية، مئات المرات في الدقيقة الواحدة؟ هؤلاء يدّعون انهم يحموننا من الخطر الآتي الينا من الخارج، لكنهم في الواقع يدوسون قيم الديموقراطية التي ناضلنا من

أجلها.

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم