السبت - 27 نيسان 2024

إعلان

لبنان السينما VS لبنان السياسة

المصدر: "النهار"
لبنان السينما VS لبنان السياسة
لبنان السينما VS لبنان السياسة
A+ A-

أحدث الإعلان عن مشاركة فيلم نادين لبكي، "كفرناحوم"، في الدورة المقبلة من مهرجان كانّ (أيّار ٢٠١٨)، غبطة كبيرة في الأوساط الثقافية والفنيّة المعنيّة بهذا الخبر. منذ ١٩٩١، حين شارك مارون بغدادي بـ"خارج الحياة" وعاد الينا يومها بجائزة لجنة التحكيم (مناصفةً مع لارس فون ترير)، لم يخترق فيلم لبناني المسابقة الرسمية لأهم تظاهرة سينمائية في العالم، بالرغم من ان أقساماً فرعية عدة في كانّ رست خياراتها على أفلام لبنانية.

بعيداً من الوطنيات البدائية والاصرار السخيف على ان الأفلام تمثّل الدول التي تأتي منها وأصحابها سفراء لأوطانهم في المنابر الثقافية الدولية، دعونا نغامر في مقارنة بسيطة بين الإنجازات التي تحققها السينما الجادة المصنوعة في لبنان منذ سنوات عدة - أحياناً بصمت وحيناً بصخب -، والإخفاقات التي يشهدها البلد نفسه في مجالات أخرى، وفي مقدمها المجال الأكثر تأثيراً في حياة الناس: السياسة. حدّ انه أصبح واضحاً ان هناك لبنانين: لبنان السينما ولبنان السياسة.

اللبنان الأول فاز بـ"السعفة الذهب" للفيلم القصير قبل ثلاثة أعوام من طريق إيلي داغر وفيلمه "موج ٩٨" (لم تقدّم له الدولة سوى بطاقة طائرة)، ثم شهد على ترشيح زياد دويري إلى الـ"أوسكار" مع "قضيّة رقم ٢٣" (ألقي القبض عليه فور عودته من البندقية حيث شارك في المسابقة الرسمية)، والآن يحتفي بلبكي المتسابقة على "السعفة"، إلى جانب قامات سينمائية كبيرة، أهمها اسطورة "الموجة الفرنسية الجديدة" جان لوك غودار.

إلى هؤلاء الثلاثة، أفلام لا تقلّ شأناً عن تلك المذكورة: "بانوبتيك" لرنا عيد المشارك في لوكارنو، "شهيد" لمازن خالد المعروض في البندقية،"يوم ببيروت" لنديم تابت في روما، "في سوريا" المصوَّر في لبنان ومموّل جزئياً منه وبطولة ممثلة لبنانية (ديامان بو عبود) في برلين، و"ربيع" لفاتشيه بولغورجيان في "أسبوع النقّاد"…، كلّ هؤلاء أنجزوا أفلامهم بمبادرات شخصية، بلا أي التفاتة من الدولة الكريمة التي من المفترض ان تحتضنهم، دولة فشلت في تأسيس صندوق لدعم السينما، رغم الدين العام الذي قارب الـ٨٠ مليار دولار.

اللبنان الثاني هو لبنان العجز والفشل الإداريين، والخلافات الأبدية على السلطة، وتوزيع الغنائم على أمراء الطوائف، وسوء الخدمات، وتركيب الملفات، وهدر الأرصدة، ثم توسّل المال من دول أجنبية تسخر منّا. هذا اللبنان الذي طلب الصحافي جهاد الزين، في مقال له، من إيمانويل ماكرون توبيخ سياسييه في مؤتمر "سيدر"، وصلت فضائح طبقته السياسية وممارساتها إلى آخر الدنيا، إذ قال خبير مدقق في لجنة "سيدر" (بحسب تسجيل انتشر على مواقع التواصل الإجتماعي) ان "المجتمع الدولي لطالما تعامل مع لبنان، كأنه مدمن الكحول الذي يتوعد بالإقلاع عنه كلّ يوم بلا جدوى، ولا مؤشر في المدى القريب، وخصوصاً في ظلّ الهيكلية السياسية الحالية، يشير إلى امكان أي تغيير أو اصلاح".

هذا اللبنان الذي يتحمّل فشله السياسيون وناخبوهم، لا يكتفي فقط بإنتاج الفراغ وتأليف سيناريوات ركيكة، بل لا يفوّت فرصة لعرقلة مشاريع الآخرين الطموحة. سلوك يذكّرنا بمثل لبناني شعبي لا نتفوه به هنا كي لا نخدش الحياء. في هذا السياق، يمكن ذكر حادثتين فقط في الأشهر القليلة الماضية: مطالبة بحذف مَشاهد من "بانوبتيك" لرنا عيد، على ان يُمنع في حال عدم الإستجابة. تجاهل وزير الثقافة لفيلم "شهيد" لمازن خالد، وهو الذي حضر إلى البندقية للترويج لفيلم لبناني ("قضية رقم ٢٣") دون آخر! ففيلم "فقير" محمولٌ على الظهر لا يستحق بعضاً من وقته الثمين…

ولعل السيناريو الأخطر من حيث التفاهة الذي تم تأليفه أخيراً وحمل بصمات الدولة في الصحافة الغربية، هو ما عُرف بـ"قضيّة الممثل زياد عيتاني" المتهم بالتخابر مع إسرائيل، قضية قالت عنها "لو موند" قبل بضعة أيام بأنها ملفّقة تشبه أسوأ الأفلام المصرية. أهذا ما يصدّره اذاً لبنان الرسمي والسياسي إلى العالم؟ كومبينات مخابراتية وحكايات ديون مريبة؟!؟ المكونات المثالية لأفلام الأكشن التي كانت تصوّر في بيروت الستينات!

وعليه، في حين يحاول السياسيون تمويل مشروع الدولة المؤجل عبر الاستلاف في باريس التي يقصدونها بطائراتهم الخاصة، ثمة سينمائيون لبنانيون، ومنهم نادين لبكي في "كفرناحوم"، يموّلون مشاريعهم بأموال لبنانية تخولهم وضع علامة "مئة في المئة إنتاج محلي" عليها.

هذه الأحوال دفعت ببعض السينمائيين إلى محاولة الانخراط في الحياة السياسية أو الشأن العام، بهدف التغيير: لبكي ترشّحت للانتخابات البلدية عام ٢٠١٦ ضمن لائحة "بيروت مدينتي"، ولكن هُزمت أمام مرشحي السلطة. مثلها، يترشّح اليوم المخرج لوسيان بو رجيلي، الذي قدّم حديثاً فيلمه الطويل الأول "غدا العيد"، للانتخابات البرلمانية ضمن مجموعة "كلنا وطني".

ما الذي يدفع بسينمائيين إلى محاولة اختراق صفوف السلطة؟ أهو الادراك المسبق باستحالة التغيير من خلال السينما؟ الفنّ يحتاج إلى نَفَس طويل، السياسة حصيلتها أسرع!

في المقابل، تنتهج الدولة المنكوبة في كلّ مرة سياسة سرقة جهود الآخرين، فتركب القافلة بعد انطلاقها. مع كلّ انجاز يحققه السينمائيون اللبنانيون في الغرب، تتكرر عبارات مثل "مبروك للبنان"، أو "الفيلم كذا يمثّل لبنان في المهرجان كذا". علينا ان نحدد أيّ لبنان نتحدّث عنه: لبنان الذي فوق أو لبنان الذي تحت؟ كلّ منهما ينظر في إتجاه. بهذا المعنى، هذه الأفلام لا تمثّل الا أصحابها.

الأنظمة العربية، ومن ضمنها لبنان الرسمي والسياسي، تضع عراقيل كثيرة أمام الثقافة والفنّ وحتى الإنسان. قد يجيزون لك تمرير بعض الأشياء من وقت إلى آخر لخربطة الأمور، وقد يلقون لك ببعض الفتات، فقط لمصادرة المخيلة وتغذية رقيب ذاتي صغير في داخل الفنّان.

لذلك، مشاركة "كفرناحوم" في كانّ حيث سيجد نفسه تحت مجهر ٤٠٠٠ صحافي وناقد، ليست إنجازاً للبنان الرسمي والسياسي، السيئ الصيت في العالم أجمع، بل هي إنجاز لفريق العمل الذي خلفه، بدءاً من مخرجته ومنتجه وصولاً إلى أصغر عنصر في طاقم العمل.

كفر… كانّ

لا تتوافر معطيات كثيرة عن "كفرناحوم"، ما عدا بعض تفاصيل الحبكة التي تدور عليها القصة، وتصريحات عامة أعطتها نادين لبكي لبعض وسائل الإعلام عقب الإعلان عن اختياره. فهي لطالما تجنبت التحدث عن أفلامها قبل عرضها الأول، ربما لإيمانها "بالعين". أياً يكن، فالمشاركة في كانّ تحتاج إلى تحضير هائل واعتناء بأدق التفاصيل، لأن الأيام الـ١٢ التي يستغرقها المهرجان تضع الفريق داخل آلة جهنميّة لا ترحم. ما نعلمه حتى الآن هو ان الفيلم ينغمس في الأزمات التي تعيشها المنطقة بشكل عام، الا انه يسلط الضوء على طفل يرفض الاستسلام بل التمرد على الواقع الذي يعيشه في قريته. الفيلم صُوِّر في بيروت وهو من تأليف جهاد حجيلي وميشيل كسرواني ولبكي نفسها. "انها بيروت كما تصوّرها لبكي"، قال المدير الفني لكانّ، تييري فريمو، يوم الإعلان عن البرنامج الكامل للدورة الحادية والسبعين.

عام ٢٠١٤، عندما حاورت "النهار" لبكي في مناسبة عرض الفيلم الجماعي "ريو أحبك"، كانت تقول انها لم تكن راضية عن "هلأ لوين؟"(ثاني أكثر الأفلام إيراداً في الصالات اللبنانية على مرّ التاريخ). "فقدتُ تركيزي مراراً جرّاء الضغط والوقت القليل المتوافر. أحياناً، بعد التقاط المشهد، كنتُ أجده مختلفاً عن النيّة الأصلية التي كُتبت في اطاره. لا ينبغي الابتعاد من النسخة الأساسية المدوّنة في الرأس. في "هلأ لوين؟" ابتعدتُ كثيراً عن النصّ الأصلي. عندما أعود أتذكر، أسأل نفسي ما الذي حصل. أجبرتُ نفسي على إنجاز مَشاهد في غضون ساعات، فيما مشهد واحد يشترط مخرجٌ آخر ثلاثة اسابيع لتنفيذه".




حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم