الجمعة - 26 نيسان 2024

إعلان

دَعه يتكئ على كتفي، فلن يتكئ بعدها أبداً

المصدر: "النهار"
نجم الدين خلف الله
دَعه يتكئ على كتفي، فلن يتكئ بعدها أبداً
دَعه يتكئ على كتفي، فلن يتكئ بعدها أبداً
A+ A-

"كان عمري ستَّ سنواتٍ. لم أكن أدرك شيئًا من وحشية الحرب المشتعلة حوالينا، ولا أفهم لِمَ تطلق الطائراتُ حِمَمَها في الحقول والمنتزهات، تحرق الزياتينَ وتُصيب العابرين. يأخذني الصداع حين يتحدث والِدايَ عن رومل، الجنرال الألماني، الذي كان يستعد للإقامة في منطقتنا. قيل إنه سيسكن في مدرسة فرنسية، حَوَّلها الألمان إلى ثكنة. هذا بعض ما كنت أسمعه من همسهِما، في جُنح الظلام، حين يشتدُّ القصف، فنختبئَ في مغارة بيتنا.  

ذات خميسٍ شاتٍ، كنتُ غائبةً في سُباتٍ ملائكي. قَدِم أخي العَلاوي من مدينة سوسة حيث كان يَدْرُس بالفَرع الزيتوني. يعود إلى بيتنا مرة كلَّ أسبوع مع رفيقيْهِ، علي وحمودة. هذه المرَّة، حَمل لي دُمية وردية من البلاستيك، ترتدي فستانًا زاهرًا. نظراتها وديعةٌ. برفْقِهِ الدافئ، أيقظني من النوم وناداني:

- خديجة، استفيقي. هذه هديتي إليك. ألبسيها ثيابًا جديدة، خاطبيها، إنها تفهمك.

عانقني وناوَلَنيها.

في يوم آخر من نفس ذلك الشتاء، لعله كان يوم خميسٍ، كان الطقس باردًا. كنت ألعب في صحن البيت مع أخواتي بتلك الدمية الوردية. يطالع أبي كتابًا أصفر الأوراق، وهو متكئٌ على الكنبة الوحيدة التي تتوسط الغرفة. فجأةً، طُرق البابُ. أقبل حارس معصرة الزيتون الإيطالية حيث يوجد الهاتف الوحيد بالبَلدة. همهم بكلماتٍ لم أتبينها. عاد بعدها أبي مثقل الخطوات إلى الغرفة، رتَّب كتابَه وقال لنا: 

- العلاوي مريضٌ. لا بد أن أذهب لعيادته. سأرجع الليلة. لا تَقْلَقنَ.

وما زلت أذكر كيف خرج أبي من البيت متجهمًا، شارد العينيْن. طلب من صديقه صالح أن يرافقه. استقلا أول سيارة اعترضت طريقَهُما وكانت السيارات وقتها نادرة. قطعا المسافة التي استطالت كأنها آلاف الأميال، مع أنها لا تتجاوز العشرين، ووصلا إلى مدينة سوسة مع مغيب الشمس. دخل المبيتَ فوجد رفيقَيْ ابنه، علي وحمودة، ومعهما المدير، ينتظرونه لكسر الباب والنفاذ إلى الغرفة. لم يَعوا الخبر: "درسوا معًا طيلة الصباح، ثم عادوا إلى الغرفة وتناول ثلاثتهم غداءَهم. نَزلا هما يتمشيان قليلاً، في حين فضَّل العلاوي الاستراحة. تُوفي بسكتةٍ قلبية وهو نائمٌ".

طلب أبي ماءً للوضوء قبل أن يَلمس جسدَ ابنِه. توضأ بهدوءٍ، ثم احتضنَه بحرقة. "إنما هو والدٌ". انحبست الكلمات في صدره وضاع الصدى في شفتيْه، وحتى الدمعة ارتَدَّت إلى قرارها. برباطة جأشٍ، التفت إلى رفاقه الذين أخرسهم الجزع:

- هل منكم مَن يريد مالاً من العلاوي؟ هل منكم مَن تعَرَّض لشَتيمته أو أذاه؟ أخبروني، حتى أستميح منه عذرًا. أريد أن يرجع ابني إلى بارئه طاهرًا.

 أجَّجَت هذه الكلمات نار قلوبهم فلم يتمالكوا عن البكاء. "العلاوي ملاكٌ في قالب بَشَرٍ". لم تصبر الحياة على طهارَتِه، ولا طالت به حتَّى يَبينَ طيبُ عنصره.  

سمع جارنا عمار، المقيم بسوسة، بالخبر. فاكترى عربةً يجرها خيْلان قويان لحمل الجثمان ليلاً. كان الحوذي مالطيَّ الجنسية. فرضت السلطات الفرنسية حظر تجول على السيارات بسبب الطائرات الألمانية التي تقصف ما ترى ضَوءَه. وضعوا الجثمان في المقعد الخلفي بعد أن ألبسوه بُرنُسَه، يوهمون العابرين بأنه على قيد الحياة. أسندوه إلى والدي. ظل متكئًا على كتفه، طيلة طريق العودة. أحيانا، يلح عليه صديقُه صالح:   

- ارتح قليلاً، ودعه يتكيء عليَّ أنا.

- بل دَعه متكئًا على كتفي. فلن يتكئَ عليه بعد الآن .

قطع الصديقان مسافة العودة واجمَيْن. لم يُكدِّر جلالَها إلا جُمَلٌ عربية مكسَّرة، يلفظها الحوذي المالطي، محاولاً أن يسرِّيَ عنهما، دونَ جدوى. كانت الطريق خَطِرة، وعرةً. استطالت كأنَّ كلَّ مترٍ منها أميالٌ لامتناهية. وصلت العربة إلى البيت حين انتصفَ الليل. وعندما بلغت بابَ الحوش، اهتزَّ الفرس وحَرَنَ، كأنما أدرك أنَّ ساعة تسليم الجثمان قد حانت، أو كأنما روح العلاوي استبانت ملامح بَيتِها فَارفَضَّت. "هذا من أسرار الروح".

في ذلك المساء، وبعد خروج أبي، ظللت ألعب بالدمية التي أهدانيها أخي العلاوي. أرتب لها زيجةً، أسألها عن ألوانها المفضلة، أو أرسلها إلى الحانوت تشتري حلوى. أخاطبها بكلماتي وأنا واثقة أنها تفهمني. بعد ساعةٍ، قدم ابن عمٍّ لنا. جلس على الكنبة. ثم ما لبث أن انفرط باكيا. مسح عينيْه بالشرشف الذي كان يغطي الكنبة. أدركت أمي أنَّ شيئًا ما حصل لابنها. دموع رجلٍ، حرّى كهذه لا تُسكب بسبب مَرضٍ. بعد همهمة وتردد، أعلمنا بموت أخي. ولولت أمي في ذعرٍ لا أصفه. بَكيتُ لبكائها مع أني لم أدرك معنى: "وفاة بسكتة قلبية". ظلت يداي تتلمسان الدمية دون رغبة. أربِّتُ على ظهرها ولا أحادِثها.

هذا أخونا الثالث الذي يموت، دون أن يبلغ أحدٌ منهم الثامنة عشرَ مثله. مرت اليوم ثمان وسبعون سنة وما أزال أبكي أخي العلاوي وأحتفظ بالدمية البلاستيكية. هذه قصته رَويتها لكم في بساطتها. رحيل الأخ ثلمة في الوجود لا يملؤها البَيان، وثغرة في صرحه لا تَسدُّها الزخارفُ، بل هو رجفةٌ لا تُهَدِّئها عوالي الهِمَم. في كل واحدٍ منا لفحةٌ من رحيل الأخ، تطيِّب قلبه، وتسهَر قرب أسئلته.  

الكلمات الدالة

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم