الجمعة - 26 نيسان 2024

إعلان

"مسدّس سلف" والصدفة العابثة: ثورة الحريّة والأمل والحياة

المصدر: "النهار"
عصام الحوراني
"مسدّس سلف" والصدفة العابثة: ثورة الحريّة والأمل والحياة
"مسدّس سلف" والصدفة العابثة: ثورة الحريّة والأمل والحياة
A+ A-

"مسدّس سلف"، رواية جديدة للكاتبة جنان خشوف، صدرت حديثًا عن دار منتدى المعارف. 

هذا المسدّسُ هو شرطيٌّ مطيعٌ يعمل لحساب الصُّدْفة العابثة، يُلازمها كما يُلازمُ القدَرَ والحظَّ، ويعمل لحسابها ليلاً ونهارًا ولا يملُّ أبدًا. ونحنُ أبناءَ البشر نتيه في هذا الكون حيال هذه الأسرار حائرين صاغرين يلفّنا القلق والخوف والاضطراب! نعدو ومسدَّسُ الصدفةِ أو القدَر يُلاحقنا أينما ذهبنا وحللنا. الصُّدْفة صاحبة هذا المسدّس عمياء لا تعي، ولا تعرف الماضي أو الحاضر أو المستقبل، وهي الّتي صنعت ماضي الإنسان وحاضرَه، وتسعى لأن تعبث بأمر مستقبله، فتضرب أو تطلق نارَ مسدَّسِها بعشوائيّة اللّيلِ الأسودِ الغامض، وباضطرابٍ وخِفَّة. تتدخَّل الصّدفة في وجودنا، في تحديد هويّة الجنين، ذكرًا سيكون أم أنثى، وتحدِّد أدقّ التفاصيل منذ لحظة اللِّقاء الأوّل ما بين نِطفة حائرة من ألوف، وبويضة عاشقة، وفي ثانية معيَّنة يتساكنان لكي يتكوّنَ كائنُ الوعي الجديد المتميِّز الفريد، فترافقينه بمسدَّسِكِ المسدَّد مع تبدّل السنين، وبه تتلهّين كما الفأر بين يدَي قطّة حمقاء لاهية. وقالت الرِّوائيّة: "تشتري مسدَّسَكَ مع تذكرةِ البداية لتُطلِقَ نارَه باتِّجاه أوهامكَ السبيَّة بعد انتهاءِ صلاحيّتها.... الحياةُ مسدَّسٌ سلفًا نحو بداياتنا....لا شيء يدوم سوى وجه الله، مطلقًا لا شيءَ يبقى على حاله، مسدّس سلفًا". وهكذا استمرَّ المسدَّسُ مصوَّبًا نحو بطلتيها وصال وميسون منذ بداياتهما، وبقي هذا المسدّس الأبديّ مسدَّدًا نحو الأبطال الآخرين في الرِّواية، يعبث بهم في أكثر الأحيان ويداعبهم في أحيانٍ أخرى ولا يبالي.

رواية جنان خشوف، صورة مستلَّةٌ من الواقع، الواقع الشرقيّ بعاداته الصارمة وتقاليده البالية وأحلامه الخائرة وترّهاته المبعثرة في كلّ زاوية وفي كلّ بيتٍ تقريبًا. الرِّواية صورة للمرأة اللبنانيّة بل العربيّة في أزماتها المتكرِّرة في مسدّس مصوَّبٍ نحوها من خلال العبوديّة والسيطرة عليها وامتلاكها بأنانيّة وجشع وغرور وخساسة، وقد تساقطت بعضُ هذه النزعات على لسان وصال: "كان يُريدني طفلتَه وعاهرته معًا، يخافني عندما أعرفه، ويكرهني عندما لا أعرفه! يحبُّ التجربة بي، وليس معي! أربكني لسنين خلت...". هذا المسدّس يكون في أغلب الأحيان في يد الزَّوج الشرقيّ الذي يُطلق رصاصاته على زوجته بحسب نزواته، وقد تُصوِّب المرأة الضعيفة مسدّسها أحيانًا على بعلها في غمرة قرفها واشمئزازها وثورتها... وبعد أن لمست من خلال الهاتف خيانة زوجها الحبيب مع آسيويّة: "مشاهد الكون كانت على صدري، فوقي، تحتي، وأحسستني سأفقد وعيي، قبل أن أدعسَ على الألم في قلبه وأمضي بمازوشيّة شديدة... خلعتُ قميصي ودخلتُ الحمّامَ آمرُهُ للمرّة الأولى، وقد أطاع...". 

لقد أثارت الروائيّة خشّوف قضيّة المرأة العربيّة في هذا الشرق وأزمتها الإنسانيّة بامتياز، وأطلقت العنان للبطلتين الرّئيستين في الرواية وصال وميسون، فعبّرتا علنًا عن معاناتهما بل معاناة المرأة عمومًا في بلادنا، كذلك الأمر مع أبطالها الثائرين المتمرِّدين في أغلب الأحيان، وقد تحرّكت عناصر الرِّواية برشاقة من خلال حبكة مميَّزة صاغتها بمرونة وبشفافيّة أخّاذة رامزة إلى أبعد الحدود. مهارة الكاتبة في صياغة الحبكة عرفناها في روايتها السابقة "حبّة الخلاص". الكاتبة في كلتا الروايتين، تتميّز بفنيّتها وبراعتها في تنظيم سرد حركة الشخصيّات عبر الزمان والمكان، وفي إتقان عمليّة تنظيم الأحداث بحسب مبدأ السببيّة المعروف، فنراها تنتقل مع شخصيّات الرواية بمرونة ولباقة جاعلةً من الرواية تحفة أدبيّة متماسكة موحَّدة الأركان. الحبكة لديها تتميّز أيضًا بالسرعة والمرونة واللّباقة في الانتقال بالأحداث عبر الزمان والمكان، فلا تترك للقارئ وقتًا للملل والسّأم. وهكذا تصدّرت قضيّة المرأة الأحداث المتتالية، في مؤسّسة الزواج أو في خارجها، ونقرأ على لسان وصال: "رأيتُ نفسي في مرآته، في عينَيْه، تقديري لنفسي مشروطٌ بحبّه ومزاجه... وأدركتُ أنّه إن أدرك أنّي أدركتُ سيكسرني، قطعًا قطعًا غير منظورة، وينثرني على فراشه وينام هنيئًا بنصره على الفساد".

المرأة في العُرف الاجتماعيّ الشرقيّ تبقى مرتبطةً بمزاج الرجل، وبمكانته في المجتمع، فهي لا مكانة لها أبدًا، ووصال لكي تكونَ ملائمة لزوجها أشرف الذي يتهيَّأ لدخول البرلمان عليها أن تكونَ كما أسرّت لذاتها: "لكي أكون ملائمة لأشرف النائب، عضو مجلس الإدارة، لا أستطيع أن أكون ملائمةً لأشرف ليلًا... غير أنّي لا أستطيع أن أقترحَ حلًّا، إذ هو مَنْ يجب أن يجدَ الحلول. إن أنا وجدتُ حلًّا سيرميه لأنّني وجدته ولم يجده هو!... ومَن أكون لأجدَ حلًّا في وجود عظمته..." (ص 17). نعم، وللطبقات الاجتماعيّة فعلها وغطرستها في داخل الأسرة ونسمعها على لسان أشرف: "كان جدّي من وجهاءِ لبنان، وكانت أمّي مِن ورود الشّام".

تصوِّر الرّوائيّة أنانيّة الرجل في مجتماعاتنا الشرقيّة، فهو يملك المرأة ساعة يتزوّجها، وها هو أشرف يُناجي نفسه: "...لا تجيبُ على مكالمتي! ربّما تستحمّ... سأرسل لها ما ترتديه اللَّيلة، أشعر بالتوتُّر مرابطًا بين أضلعي، يجب أن أطلقه على جسدها... ولكنّني أكره الاتصال غير المتلقّى، وما الأهمّ منّي كي لا تردّ"؟!

مسدّس جنان خشوف مصوَّبٌ دائمًا في روايتها نحو المرأة الشرقيّة ونحو المجتمع وعاداته وتقاليده، فإذا بها ثورة لا تعرف المستحيل ولا تستكين، ثورة على مجتمع غشاء البكارة، فنسمع ميسون المطلّقة تردِّد في ذاتها: "منذ بدايتي لم أؤمِن أنّ قيمتي تكمن في غشاء بين ساقيَّ، إذًا، لِمَ لا أستطيع إلّا أن أخاف من زواله الآن". وهي المطلّقة في عرف المجتمع غيرها في عزوبيّتها، وصارت تشعر بأنّه لا مكان لها بين أقربائها، فإذا بجدّتها تقترب منها وهي في حلبة رقصٍ وتهمس في أذنها: "ألا تستحين من الرّقص وأنتِ في وضعكِ! اللّي استاحوا ماتوا"! (ص67)، ونسمع وصال تقول للشيخ الذي زوّجها:"...لماذا الجنس قبل الزواج حرام"؟! (ص33). 

نعم، تستمرّ الثورة مسدَّسًا تُصوِّبه البطلتان الرّئيستان في الرواية نحو المجتمع المتزمِّت ونحو العادات ولو كانت مرتبطة بالدّين، ونرى ثورة وصال تتفجّر مع تحجيب طفلتها عائشة في المخيَّم من دون إرادتها، وإذ بها ترى طفلتها "قد كبرت فجأةً لِتختفِيَ تحت حجابٍ محا طفولتها...".

الحبّ في الرواية له مذاق خاصّ، فيه ثورة وفيه حريّة... الحبُّ الحقيقيّ وشمٌ على ذراع: "وصال، وصالكِ حقٌّ – حبٌّ"! وتتساءل الكاتبة جنان: "هل هي محض مصادفة أنّ أكثر الحيوانات وفاءً هي أكثرها حرّيّة"؟ الحبّ شوق واشتياق، ونسمعه على لسان وصال: "وشمني على ساعده! وكم أشتاق للحبّ...". رصاصات مسدّس جنان خشوف تستهدف أبطال روايتها العشّاق في الصميم، فتعبث بهم في لاوعيهم على لسان وصال: "أحيانًا نشعر بالذنب لأنّنا نعيش، لأنّنا نحبُّ، لأنّنا ما زلنا نسوة بعد كوننا أمّهات... يكون الحبّ بمنزلة كماليّات لبعض النّاس، وأساسيّات لآخرين، مَن يُحدِّد إذا كانت الفئة الأولى منافقةً بتحديد الحبّ، أم أنّ الفئة الثانية طمّاعة لا تكتفي؟!".

"مسدّس سلف"، رواية جنان خشوف الثانية الصادرة عن دار منتدى المعارف تحلّق في فضاء روايتها الأولى "حبّة الخلاص"، فكلاهما ثورة وتمرُّد وتحرُّر، ثورة على التقاليد الموروثة البالية التي تُعانيها المرأة المشرقيّة منذ ألوف السنين، ثورة الوعي على اللاوعي الذي يتربّصنا سلفًا بمسدّسه في سراديب النفس المظلمة، ثورة الحبِّ النقيّ الطاهر على مسدّس شرس شرقيّ متجمّد في مستنقعات الجهل والعبوديّة والظّلم والقهر والاستبداد، رواية جنان خشوف ثورة الحرّيّة والأمل والحياة.  

الكلمات الدالة

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم