الجمعة - 26 نيسان 2024

إعلان

"رأيت بعيني النيزك ينزل من السماء... يا سادة صدقوني"

المصدر: "النهار"
رضا نازه- المغرب
"رأيت بعيني النيزك ينزل من السماء... يا سادة صدقوني"
"رأيت بعيني النيزك ينزل من السماء... يا سادة صدقوني"
A+ A-

"ماذا أصنع هنا؟ وهل أنا فعلاً هنا الآن وماذا أنتظر؟ بل كيف عدتُ وقد كنتُ غادرتُ كما غادر الجميع وخَلَتِ الإدارة. أطللتُ من النافذة. كل شيء امتد إليه الليل، وسياراتُ النهار اختفت تقريبا من الدرب الخلفي الصغير. وحده عْكُّونْ حارس السيارات الشرس يتبختر في الدرب الذي يحسبه مِلكا خاصا أو مملوكةً يلعنُها ثم يضاجعها. توقف عند بقعةٍ تركتها إحدى السياراتِ جافةً لم يمسسها المطر الخفيف. أخرج نقودا ونظر فيها ثم في البقع الأخرى الجافة، كأنه يحصي حصادَ يومه من مستطيلات الجفاف..  

نوافذ العمارات المقابلة أضاءت، وصارت أشباحُ السكان تتحرك خلف الستائر، وصارت الرياحين المتدلية من الشُّرُفات تبدو كشعورٍ متهدلة. أطلَّتِ امرأة من شرفةٍ على حافتها تمثالُ بوذا في جلسته الأبدية. تعجبت. أهل الشقة ليسوا آسيويين كما توهمت، والتمثالُ ربما هو لجلال الدين الرومي وقد شاعت في الناس قواعدُه في الحب، وهل تجدي التماثيل شيئا في التَّحاب؟

أسفلَ الدرب ظهرَ شخصٌ تذكرتُ أن عْكُّونْ قد عنفه بالقول صباحًا فلم يجبه. تقدم بهدوء وركب من الباب الأيمن كأن سيارتَه انجليزية، ثم عبر إلى المقود وأقلع على الفور. ركض عْكُّونْ حتى طار قبقابُه البلاستيكي المزركش الضخم، واستمر حافيا لا يبالي بشظايا زجاج أو مسامير أو داء كزاز. لوَّحَ بيديه يائسا من إدْراكِ السيارة وأخذِ نقودٍ هي في الحقيقة واجبُ احتماء بهِ من شرِّه هُو لا غير. لقد انتقم الشخص ببرود إنجليزي.. توقف عْكُّونْ يشهق ويزفر ويصرخ مُغالبا أنفاسَه. جذب شعره ونتفه. صك خدَّه كالثكلى ووزع كعادته أقذع ما في معجمه من الشتائم التي كانت لِتشعلَ الحربَ الضَّروس لو كان الزمانُ زمان البسوس.

التفت مستسلما وعاد لقبقابه ومشى يكشط به الأسفلت. جلس إلى رفيقه على صندوق خشبي، ورفيقٌ آخر كان يجلس أرضا. انضموا إليه في سمفونية اللعن والسب حتى انقلب حفل اللعن ضحكا هائجا وبدَوْا يتهارشون مثل جِراءِ تاسمانيا. ثم قام عْكُّونْ خطيبا ينتقمُ لكبريائه وقال بنشوة عارمة وهو يشير إلى الدرب:

- "أنَا هْنَا مَا يْحْيْدْنِيشْ الطبيب".

بدت سيارة فهرع إليها عْكُّونْ يسجل حضورَه. ركن السائقُ مركبته غير مبالٍ بتوجيهاته، بينما هو ينط يمينا وشمالا حتى سكت المحرك وخرج الرجل ممتعضا. مد له درهمين على غير عادة الأداء المؤجل وقال بحزم:

- مرارا قلت لك وفر إرشاداتك، يكفي أنك تسببت لي في اصطدام ومحضر أول مرة.. دراهمك ستأخذها ولا تُرنِي ما علي فعله..

أحنى رأسَه وأدارَ ظهرَه عابسا يغمغم اللعنات حتى اختفى الرجل عن الأنظار. لم يرَ عْكُّونْ في طريقه حافة بالوعة فتعثر وكاد يسقط. استشاط غضبا ورفع صوته يلعن كل شيء ودربَه وجميع الدروب ويدعو مختنقا كأنه مظلوم العالم وكلِّ العوالم الممكنة..

رفعت رأسي في الشرفات هل يهتز أحد لذلك الكلام الفظيع؟ هل يطل أحد؟ لا أحد.. كأن الظلال خلف ستائر الشقق فعلا أشباح. ومضى عْكُّونْ يجر قبقابه حتى أتم الدرب من الأعلى ثم التفت وهرع إلى امرأة عند باب سيارة فاخرة. انحنى أمام تغنجها الليلي وركع وبايَع. استوت في مقعدها وفتحت نافذتها وصارت تعاتبه على سوء غسله لسيارتها. اعتذر واستفاض وطار رشاشُ لعابه على وجهها فتقززت وطفقت توبخه على رشاش اللعاب وتدعوه ليبتعد، وهو يزيد اقترابا وقذائف لعابه حيثما توجهت أصابت. أغلقت الزجاج دونه وانطلقت، وطفق يسبها بلغة كأنها البابلية. كيف يسبهم ويلعنهم ومع ذلك يأتمنونه على غسل سياراتهم وحراستها؟ هل الدربُ ميت؟ لكنَّ أمثالَ عكون في كل الدروب.. أفكل دروبنا ميتة؟

عاد السائق بعد برهة فهب إليه عْكُّونْ ليوجهه كأنه فقدَ الذاكرة. لا فائدة. ركب وانطلق بعد ما رمى بدرهم آخر محتميا برنينه من عيون عْكُّونْ الشوساء. انحنى للدرهم ولما قام، طار رشاش اللعاب من جديد ولطم خدوده ودعا بدعوى الجاهلية..

وما هو إلا أن رأيتُ شهابا ينزل من السماء ويصدم رأسَه صدمة مكتومة خر منها صريعا. فورا لاذ صاحباه بالفرار. الشرطة ستحضر ولا شك أنهما من المبحوث عنهم. أطل الناس عليه مُلقى على الأرض وحجرٌ غريب ذو ثقوب كغمَّازاتِ خدود بجانبه وقد فقد توهجه وتلطخ بالدماء. حضر الإسعاف والشرطة العلمية لرصد حركة الحجر ومصدره. ونزل بعض سكان العمارات ورأى بعضهم بعضا ربما لأول مرة. منهم من كان يتحسر ليت عْكُّونْ تغير وما هلك هذا الهلاك. مسكين! عجيب كيف كانوا ينسبون شرَّه لرفاقه الذين فروا عنه الآن. ثم أثيرت التساؤلات والمسؤوليات فغالبتُ جبني وخوفي من تبعات حضوري في الإدارة ليلا، وأطللتُ من النافذة لأشهد شهادة العِيَان التي ستهدر دم عْكُّونْ:

- يا سادة لقد رأيت بعيني النيزك ينزل من السماء ويشدخ رأس الحارس.. يا سادة.. صدقوني".

كان صوتي يرتد علي فلم ينتبهوا لي ولم يسمعوني، كأنني عَدم وهلام، كأنني أتكلم في قنينة أو في حلم أو من برزخ.. وكنت سدىً أصرخ، أصرخ حتى أفقت من نومي أشهق وأردد: "يا سادة.. النيزك.. يا سادة.." فتعوذت بالله من شر ما رأيت وقررتُ أن لا أحكيه لأحد ..

**

في الصباح ركنت سيارتي خلف مبنى الإدارة، فهبَّ عْكُّونْ ينِط حولي ليريني ما عليَّ فعلُه. أغلقت زجاج النافذة تفاديا للسِّبَاب وللـُّعاب، وخرجت من الباب الأيمن كأن سيارتي إنكليزية.

الكلمات الدالة

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم