الجمعة - 26 نيسان 2024

إعلان

يومٌ طويل مع أطفال مخيم "محمد الرشيد": هل ينسى الياسمين ليلة السكاكين الطويلة؟!

المصدر: "النهار"
أمل هواري
يومٌ طويل مع أطفال مخيم "محمد الرشيد": هل ينسى الياسمين ليلة السكاكين الطويلة؟!
يومٌ طويل مع أطفال مخيم "محمد الرشيد": هل ينسى الياسمين ليلة السكاكين الطويلة؟!
A+ A-

كانت مشاعر الحماسة والفضول واللهفة، كما هي الحال عند كل تجربة جديدة أخوض غمارها، تغلب على الرهبة التي لا أستطيع انكارها؛ الرهبة من ملامسة معاناة شريحة سورية كبيرة من الأطفال النازحين، تكاد تصبح جزءاً لا يتجزأ من نسيج المعاناة اللبنانية. 

في الطريق الى سهل البقاع، ومع كل شهيق يملأ رئتيّ بالهواء البارد النظيف، تتزاحم في رأسي عشرات الأفكار، في محاولة لاستشراف لحظة اللقاء مع أطفال مخيم "محمد الرشيد". فجأةً، تتلاشى صور الطبيعة الجميلة، والروائح التي تعبق في المكان، والألوان الزاهية على جانبي الطريق، تسرقها صورة لأطفالٍ في أوائل العمر، يلهون في حقول الملفوف ويسدّون رمقهم بما يتيسر لهم من أوراق يقطفونها من ثمارها، ويتناولونها بشهية منقطعة النظير. يلفت نظرهم مشهد الحافلة التي نستقلّها، يلوّحون لنا سريعاً لنردّ التحية، من دون أن ندري ماذا يخبئ لنا هذا اليوم الطويل.

كلّما اقتربنا من المخيم، تغيّر المشهد. بدأنا نرى أعداداً متزايدةً من الأطفال الذين بالكاد يرتدون ما يخفي أجسادهم الغضّة، ويقيهم برد الشتاء. رحنا نسير ببطءٍ شديد، فالطريق تزداد وعورة، وهي مكسوةٌ بالتراب والطين والحصى. أشاهد طفلةً تركض حافيةً وتلعب مع قريناتها وأقرانها؛ فأسألها أن تنتعل حذاء يقيها البرد والحصى، فيرد طفل آخر: "نحنا معوّدين عالبرد!".

كان الأطفال يتبعون الحافلة جرياً، ملوّحين، ومتسائلين عمّا اذا كنا أتينا لاصطحابهم الى المدرسة! يسألون بشوقٍ وحرقة، وكأن لسان حالهم يقول "أما آن لنا أن نعود أطفالاً!. لكنهم سرعان ما يتناسون السؤال ليبادروا بتوجيهنا الى مكان الأطفال الذين جئنا لأخذهم. فالكلّ كان يعلم أنّ مؤسسةً ما ستعتني بهؤلاء الأطفال.

ما إن وطئت قدماي أرض المخيم، حتى تجمّع الأطفال من حولي، يلقون التحية، يطرحون أسئلةً تدمي الفؤاد، وبعضهم كان يكتفي بالنظر طويلا والتمعّن في كل التفاصيل: "بدنا نتصوّر معك سيلفي"، "فرجينا تلفونك"...

تشجّع أحد الأطفال طالباً أن نلتقط صورة، وكم حاولتُ تدارُك ما يجري من حولي وألّا أظهر بموقع الشفقة أو أترك العنان لدموع عينيّ. أمسكت بهاتفي فاصطفوا من حولي مبتسمين، ملوّحين، رافعين أيديهم، ومحدّقين في شاشة الهاتف ينتظرون التقاط الصورة (التاريخية). وأنا أكتفي بالنظر الى ما أراه أمامي؛ يا إلهي، كيف لهؤلاء الأطفال أن يبتسموا بعد كلّ ما عاشوه ولا يزالون يعيشونه من الألم والخيبة والانكسار، بسبب الفقر والبرد والجوع والحرمان. التقطتُ الصورة وودّعتهم لأتوجه الى المكان المقصود.

أتابع سيري، تمرّ بجانبي شاحنةٌ تقلّ عدداً كبيراً من الصبية والفتيات في سنّ المراهقة المبكرة. يبدو أنهم يعملون في الحقول، ويتمايلون مع الشاحنة التي تجتاز الطريق الموحلة بصعوبة، همّهم الأكبر الحصول على لقمة عيشٍ لهم ولعائلاتهم التي تقطن المخيم ذاته. تغيب الشاحنة فيتراءى لي طفلٌ لا يتجاوز الأعوام الأربعة، يطل برأسه من أسفل "جدار" خيمة، وعندما تلتقي عيناه التائهتان بعينيَّ الحائرتين يخفي عينيه ويبتعد خجلاً. أقترب منه قليلاً فيستوقفني مشهدٌ لفتاتين لا يتجاوز عمر كلّ منهما الخامسة عشرة، تحملان طفلين رضيعين! يبدو أنهما أنهتا مرحلة الطفولة والمراهقة في زمن قياسي ودخلتا مرحلة الأمومة باكرا؛ الأمومة التي لم تحصلا على ما تستحقانه منها!

كان واضحاً أن لدى كل طفل وسيدة ورجل في المخيم رغبةً عارمة بالكلام، لكأنهم يبحثون عن منبرٍ يشكون عبره مأساتهم. فهل من مستمعٍ وهل من مجيب؟!

أمضيتُ ساعات قليلة في المخيم، استمعت خلالها الى الكثير من القصص والحكايا المجرّحة التي امتدت من لحظة اندلاع الأزمة السورية، وانتهاكها كل بيت من بيوت السوريين، مرورا باللحظات العصيبة التي عاشها النازحون أثناء محاولة الدخول الى الأراضي اللبنانية عبر الحدود، بما يحمله ذلك من اذلال وانتظار وبرد ومهانة، وصولا الى بداية رحلة عذاب جديدة في مخيمات النزوح التي بات فيها كل تفصيل بسيط ينذر بفتح صفحة جديدة في سجل عذابات أناسٍ، لا ذنب لهم إلا أن النار اندلعت في ديارهم، فلا هم من أشعلوها، ولا هم بقادرين على إخمادها وتجنب آثارها غير القابلة للامحاء.

لا أذيع سراً إن قلت أنّ هذا اليوم ترك في نفسي عميق الأثر، بالأنين والألم والفقر والمعاناة والحرمان، بالعيون البريئة التي تتقلب بحثاً عن حقها في طفولة طبيعية وعيش كريم، و... بذلك الإصرار على الحياة على الرغم من حجم المأساة!

أليس حريّاً بكل من يقف وراء هذه الحروب والأزمات أن يوقف هذا الرقص على تخوم العدم؟!

هذه ليست دعوة عبثيّة الى التفاؤل، إنما محاولة جاهدة لاستعادة ما بقي من انسانيتنا. هي صرخة من أجل العقل في هذه الغابة من الغرائز. فا بدّ أن نعود الى حيث يملأ الله أيدينا وصدورنا ووجوهنا... ودائماً من أجل الانسان الذي في الانسان!

هل ينسى الياسمين ليلة السكاكين الطويلة؟!

الكلمات الدالة

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم