تتطلّب الصناعة مزيجاً من الخيال والجرأة والابتكار. صناعة الأوطان ليست استثناء لهذه القاعدة. الأسطورة وإرادة العيش معاً ومأسسة الحكم هي انعكاس اجتماعيّ للمزايا الثلاث. لكنْ ليس كلّ مجتمع وطناً. فالأخير هو صورة الأوّل وغايته، بتعبير أرسطيّ. إنّ عبارة "صناعة وطن" هي غير تقليديّة لكنّها في الوقت عينه طبيعيّة. إنّها استكمالٌ صريح للتدقيق في بعض الأقوال عبر التاريخ.
"مصر هبة النيل". قالها المؤرّخ الإغريقي هيرودوت. إنّه تحجيم لجهدٍ حضاريّ تاريخيّ وتعليبه في هبة، في منّة من النهر. لزم الأمر حوالى 2500 سنة لكي يعاد التدقيق في المقولة. هذه المرّة، تبرّع مؤرّخ بريطانيّ بهذه المهمّة: أرنولد توينبي. الحضارة تنشأ من حيث تحدّيها للبيئة الشاقّة المحيطة بها. يعطي مثلاً: نشأت الحضارة الصينيّة في وادي النهر الأصفر الذي لم يكن صالحاً للملاحة بفعل فيضاناته المدمّرة. هي لم تنشأ في وادي نهر اليانجتسي الأقلّ عنفاً. الحضارات "تتوالد في البيئات التي تتّسم بالمشقّة غير العاديّة". الزلازل الطبيعيّة والسياسيّة التي ضربت لبنان تاريخيّاً، أمكن أن تقضي على أيّ فكرة لوطن. لكنْ هناك شعب استجاب للتحدّي. وإعلام أيضاً.
الأوطان كما الحضارات، ليست هبة. إنّها تحدّ. هل تدرك "النهار" حجمه؟ بالنسبة إلى خلاصات توينبي، "كلّما عظم التحدّي اشتدّ الحافز". لذلك، لا تكتفي "النهار" بإدراك حجم التحدّي بل تفرح به أيضاً. الأوطان ليست هبة. إنّها صناعة. صناعة التحدّي نفسه.