الجمعة - 26 نيسان 2024

إعلان

"تركو" ووراثة متلازمة التعدي على الكرد

المصدر: "النهار"
براء صبري- كاتب سوري
"تركو" ووراثة متلازمة التعدي على الكرد
"تركو" ووراثة متلازمة التعدي على الكرد
A+ A-

لا تزال الصور القاتمة القادمة من "عفرين" تؤرق مضاجع الأكراد في عموم سوريا، وباقي مناطق انتشارهم في الدول الأربع التي قسمت جغرافيتها اتفاقية "سايكس بيكو" الشهيرة، وهو جزء من متواليات لا متناهية من صور سابقة لمحن الأكراد مع السلطات التركية منذ عقود. الأجيال الكردية المتعاقبة ترث تلك المحن، وتعيشها، وترثها الى الأبناء من دون فهم لمسبباتها أكثر من أنها مجرد عقاب لولادتهم في مناطقهم الجغرافية الخشنة الطبيعة، والمريبة الجوار، والكثيفة الطعنات الداخلية. 

عملية عفرين (ا ف ب).

مسيرة العقاب

الحراك التركي في أقصى الشمال الغربي السوري لا مبرر له لدى كل مراقب سوى أنه جزء من مسيرة العقاب المتوارثة لدى الدولة التركية تجاه أحد الأقوام في المنطقة التي كانت في يوم من الأيام جزءاً من سلطنة متهالكة الداخل.

العملية في "عفرين" جزء من عقاب على عدم أخطاء ارتكبت تجاه حدودها الحالية من الضالين القابعين وراء الحدود الجنوبية لها. لسان حال الدولة التركية التي لا ترضى للاستكانة لحدودها الحالية التي تجدها صغيرة عليها يقول: نعاقبكم لأنكم لم تخطئوا في إدارة الحدود معنا! كانت الدول ذات الأطماع الخارجية تصنع الحروب مع جوارها الأضعف منها من مسببات تافهة، ولكنها على الأقل كانت تجد المبرر للانطلاق، ولكن، العداء العرقي للدولة التركية للكرد كسر القاعدة لمصلحة الهجوم لأجل الهجوم لا أكثر ولا أقل.

التمويل والسيطرة

بلغ الحقد مبلغ الهجوم وتحمّل التنديد الدولي لإشباع الغريزة العدائية للذات تجاه الآخر. هذا النوع من البغضاء قل نظيره حالياً في معيار تعامل الدول مع الآخر، وإن وجد شبيه له بتصرفات جماعات متطرفة عابرة للحدود، ومليشيات تائهة تبحث عن التمويل والسيطرة كما في حال جماعة درع الفرات التي تقاتل مع تركيا ضد قوات سورية الديموقراطية المحاصرة من كل الجهات في "عفرين" منذ أيام تحت مسمى الجيش السوري الحر، والذي لا تملك من اسمه شيء فهو لا حر، ولا سوري، ولا جيش.

التصاريح التي تصدر من أنقرة على أهمية عملية التحرك في "عفرين" لحماية الأمن القومي مدعاة للضحك لدى العديد من الدول ذات الثقل في العالم، والتي وإن لم تتحرك بقوة لردع أنقرة لمسببات أخرى متعلقة بالعلاقات الدولية، والمصالح الجيوسياسية، غير أنها ترى تركيا الحالية في قمة العقل السياسي البغيض والطفولي.

كان الساسة الترك يمنون النفس بقيام الأكراد وحلفائهم من العرب والمسيحيين ببعض الاختراقات لحدودها كل هذه السنين الساخنة من الحرب السورية للتحرك الشامل والمفرط ضدهم، ولكنهم ملّوا، ولم يعد هناك صبر لانتظار قيام هؤلاء الصغار بالخطأ المنتظر فتحركوا دونما مسبب ضدهم بشراسة.

الأكراد في عفرين (ا ف ب).

الحدود الرصينة

الحدود الرصينة والصعبة الاختراق كانت سبباً للكثير من اللغط والتنديد في الشارع الكردي ضد السلطات المحلية والذي كان يضطر الكثير من أبنائه للتحرك الى إقليم كردستان العراق ومنها الى تركيا وبعدها لأوروبا. ظل الناس منزعجين من تشديد تلك السلطات إقفال تلك الحدود في وجههم. في حين كان رجال آخرون ذوو لحى وغرباء يتحركون بسهولة جيئة وذهاباً في المناطق التي تقع خارج السلطات الكردية.

كانت الحدود التي تتبع إدارة الأكراد مغلقة في وجه العسكري والمدني، وكانت ذات الحدود التي تتبع إدارة الجهات المعارضة المذهبية الهوى في شمال سورية مفتوحة للمسلحين، والمهربين، والمتطرفين القادمين من جميع أصقاع العالم لتأسيس دولة الخلافة المندثرة. ساندت تركيا أصحاب الحدود المفتوحة على مرأى العالم وعاقبت حراس الحدود المحترمين لجوارها. احترام الجوار في ما يبدو لا يشفي غليل تركيا. المحق والاستسلام التام هما ديدن ذهنية كهذه تأسست عليها دولة قومية صرفة تحاول تطعيم ذاتها من خلال حزب العدالة والتنمية بهوى السيادة المذهبية لعالم السنة، ومن خلال الذاكرة وتمجيدها وتوريثها من خلال التجديد الحاصل في المناهج التعليمية التركية للأبناء.

هو رفض تام وعلني للسلطات الحالية لتنقيح الذاكرة السوداء للدولة وتنقيتها من كوارث حلت بالشعوب التي كانت تحت حكمها كالأرمن، والعرب، والكرد، والأقوام المسيحية على يديها.

ذاكر التمدد

تتمسك أنقرة فقطنأنقرىةا بذاكرة التمدد، والنفوذ، وترسيم الطريق الى المحيط الذي تبتغي العودة إليه ببعض المساجد، والخطب المعادية للصليبيين والصهاينة، ومن خلال قوافل من التائهين الى غزة، ورسائل إعلامية منافقة عن اهتمامها بمظلومية ثغر سابق من ثغورها هو غزة.

حرس الحدود الصامدين في "عفرين" حالياً لم يسمحوا لخطة مهندس العثمنة الجديدة أن تتحقق. كان داوود أوغلو يخطط لإرسال بعض الجنود لداخل سوريا ليطلقوا بعض الصواريخ لداخل تركيا، وتقوم تركيا حينها بالهجوم على السلطات الكردية هناك تحت شعار الدفاع عن النفس. طرد أوغلو من مشروع السلطنة التي يتخيلها على يد سيدها، وتسربت التفاصيل للإعلام، وفشل المخطط. ولكن، الهجوم تم دون كل ما ذكر معتمداً على الحقد العرقي لرجل كان ولا يزال يجد في حكم العالم القديم مبتغاه، وكانت حدود عالمه ذاك تمتد من مصراتة في ليبيا الى دابق في شمال حلب. ألم يستهزئ السيد أردوغان علنية من الترسيم الحالي للحدود في بحر ايجة مطالباً بالجزر المقابلة لشواطئ تركيا من اليونان؟!

الصمود غير المتصور للمدافعين عن حصن "عفرين" كان مصدة في وجه اندفاعة حشود السلطنة، والكتائب المحلية التي بدأ يظهر الشقاق بينهم ذات التبعية للباب العالي المفترض منهم دخوله بلمحة عين. التوتر الذي يصحب صمود أبناء المقاطعة الشبه معزولة هز مخيّلة أنقرة عن وقائع العالم الحالي، وكانت وخزة من وخزات الاستفاقة من عالم الخيال الذي لا يجلب سوى الموت والدمار للمحيط المنهك أصلاً. تركيا الغاضبة من واشنطن المتمددة في معظم المعمورة بدلاً عنها على خطتها على جعل قوات سوريا الديموقراطية قوات نظامية، وجعل تشكيلات منها حرساً للحدود لم تسمع في ما يبدو ما صدر من حقيقة أكيدة من واشنطن عن أن المنطقة التي تستهدفها العمليات التركية، وكانت تقصد "عفرين" هي واحدة من المناطق القلائل الآمنة في سورية الصاخبة. تذكير كان لا بد منه للاستفاقة المطلوبة. ولكن دسائس بقاء الحاكمية لعائلة السلطان في اسطنبول تحتوي بجوفها الحروب والانتهاكات.

وارثو الكلمة

في الجغرافية التي جئت منها كان العجائز والعديد منهم قدموا أو قدم آباؤهم من الحدود الشمالية لسوريا التي تسمى منذ قرن بـ "تركيا الحديثة" يرددون عند ذكر أحد الأشخاص العنيفي التصرف بكلمة (تركو) وكانوا يقصدون بها أنه شبيه للأتراك في ظلمه وتعديه، وكان هؤلاء الوارثون للكلمة والتصور لا يفرقون بين السلطة والمجتمع في تركيا لكونهم أميين، ولكنهم كانوا واضحي القصد (السلطات والجنود الأتراك)، وهم كانوا يورثون تلك الكلمة للأبناء من جيلنا والجيل الذي قبلنا، ورغم أننا نتجاهل استخدامها وتعميمها، ونرفض البعض غير المقصود من عمقها التمييزي، ولكن، بفضل التصرفات التركية العدائية تجاه أبناء هؤلاء العجائز وأقربائهم على جانبي الحدود نجدها تطفح مجدداً على السطح لدى البعض، وهو جزء من حروب أخرى محزنة في وسائل التواصل الاجتماعي والإعلام المرافقة للحروب التركية غير المتناهية تجاه الأكراد. والخوف كل الخوف ان سيول توريثها الى الأجيال القادمة في قمة دفقها، وخصوصاً أن عمليات عدائية شبيهة لعملية "عفرين" في كل حديث يتحدث به سلطان هذا الزمان الذي يرفض أن يرى ان العالم لم يعد يعترف ببضعة مدافع وفرمانات يحتمي وراءها تلوح في الأفق إضافة الى أن شريط صور الضحايا المدنيين في "عفرين" على يد طائراته في تمدد.

[email protected]

Facebook: Baraa Sabri


الكلمات الدالة

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم