السبت - 27 نيسان 2024

إعلان

حقاً كان هذا المطران رجل الله ونحن لم نعرفه

مارلين سعاده
حقاً كان هذا المطران رجل الله ونحن لم نعرفه
حقاً كان هذا المطران رجل الله ونحن لم نعرفه
A+ A-

"على مثال أبي الفضائل نقولّاوس – سِفرٌ من سَفَر"، الجزء الثاني، هو عنوان الكتاب الصادر أخيراً عن مؤسسة نعمان للثقافة بالمجّان لمناسبة الذكرى الخامسة والثلاثين لغياب رئيس أساقفة الروم الكاثوليك الملكيّين، المتروبوليت نقولاّوس نعمان؛ يندرج هذا الكتاب في أدب السيرة، إذ يروي فيه الأديب ناجي نعمان مراحل من حياة عمّه كما عرفه، وكما سمع عنه من خلال حوارات له مع بعض معاصريه، أو من خلال مراسلات متبادلة ما بين صاحب السيرة وآخرين منداخل البلاد وخارجها. 

هو نقولا بن عبدالله بن حنا نعمان، والدته آجيّا يوسف حلّاق. وُلد في حارة بولاد، باب توما، دمشق، في الثاني والعشرين من حزيران 1911، وتوفاه الله في خبب، من أعمال #سوريا، سنة 1982 وهو لمّا يزل في أوج رسالته الكهنوتية؛ فما يتضمّنه الكتاب من تفاصيل عن حياته يشي بأنّه كان مهيّأً ليصبح سابع البطاركة الذين عاصرهم!

مذ نباشر السَّفرَ في هذا السِّفرِ، تطالعنا كلمة "عمّاه" تتردد على لسان الكاتب الذي يفاخر باختيار عمّه لاسمه نسبة لنجاته بعد ولادة قيصريّة، اذ استعصت الولادة الطبيعيّة؛ كما يفتخر بعمادته على يده: "يا من عُمّدت على يديه فألبسني المسيح..."؛ مناجاته هذه: "عمّاه"، تتردّد على مدى السيرة، بكلّ ما فيها من حب، وإجلال، وفخر، وحنين، واشتياق كأنّ لا ارتواء له! ويبقى الحلم بالوقوف أمام ضريح الراحل في خبب الأُمنية الأولى والأخيرة، يقول: "أمنيتي أن أقف يومًا أمام ضريحك... لأقدّم لك تحيّة وفاء تأخّرت طويلا" (ص 159).

يتضمّن الكتاب وقائع تاريخيّة تضيء على أحداث عايش صاحبُ السيرة الكثيرَ منها، وهي إن دلّت على شيء فعلى مقامه الرفيع ومكانته في مجتمعه وخارجه، فقد كانت له علاقات طيّبة مع الرئيس صائب سلام، كما مع العديد ممّن عملوا في السلك الدبلوماسي، خاصّة في أوروبا؛ وكان يستفيد من علاقاته ليحسّن أوضاع رعيّته.

يوقفنا الكاتب خلال السرد عند محطّات بارزة من تاريخ البلاد، كمجيء العميل الاسرائيلي إيلي كوهين الى سوريا سنة 1962، وإقامته فيها تحت اسم كامل أمين ثابت بعد ادّعائه أنه مهاجر سوري الى الأرجنتين، ألهب الحنينُ قلبَه فقرّر العودة الى بلاده التي يحبّها "للبدء بمشروعات في أرض الوطن، وكان محلّ اهتمام وترحيب من المسؤولين في البلاد." (ص 92 – 93). ويروي لنا كيف صادف كوهين هذا سيارة المطرانيّة فأقلّته كما كانت تقلّ "أيّ شخص تصادفه في الطريق الى وجهته، أو الى أقرب نقطة من تلك الوجهة"، بهدف تقديم المساعدة، خاصّة أن السيارات في حينه كانت نادرة الوجود؛ وكان من جرّاء هذه الخدمة أن استُدعي المطران والسائق الى التحقيق ثم أخلي سبيلهما بعد استيضاح ما جرى. ثم يختصر لنا كيفيّة كشف أمر هذا العميل والعقاب الذي ناله، ومطالبة بلاده باستمرار بجثمانه.

كان الكاهن نقولّاوس (المتروبوليت لاحقًا) يتقن اللغة الفرنسيّة ويتكلّمها بطلاقة ويلقّنها لتلامذته. وقد حظيت هذه اللغة بشكل خاص باهتمام كبير منه فـ "استحقّ، تقديرًا للخدمات التي أدّاها الى الثقافة الفرنسيّة، وسامًا من وزارة التربية الوطنيّة... هو وسام السعف الأكاديميّة من رتبة ضابط... من المجمع الفرنسي... في3 كانون الثاني 1949." (ص 104).

عاش حياته ما بين سوريا ولبنان، وفي موجز لما قام به من إنجازات خلال مسيرته جاء في نشرة "المسرّة": "قام بنثر المدارس والكنائس في كل القرى، بمعاضدة أخوته الآباء البولسيّين، وترميم كنائس أخرى. كما لم يتوانَ عن تشييد مطرانيّة جديدة في خبب، وترميم بيوت للكهنة والراهبات... وعمّم الخدمات الاجتماعيّة بحفر الآبار الإرتوازية ومدّ خطوط الكهرباء، وعمل على إنعاش الزراعة باعتماد الأساليب الحديثة وتشجير الأراضي... وتنشيط الخدمات الصحية، ولا سيما لجهة بناء المستوصفات..." (ص 103). اختار أن يعيش ضمن رعيّته الفقيرة، لكنّه "حمل العالم الى خبب، فكان الطبيب والمزارع والمعمرجي،والمعلّم والأب والأخ والمرشد..." (ص 174) لكل إنسان، فقد "كان الإنسان همّه الأكبر، فسعى منذ اليوم الأوّل أن يكون خادمًا للكل وأحبّ الكل وخدم كلّ من قصده. وفتّش عن المريض، والمحبوس، والعريان، والإنسان الملقى على الطريق "بين حيّ وميت"... من دون تمييز... أسّس صندوق تعاضد عجزت الأبرشيات الباقية عن تحقيقه..." (ص 190). كان شعاره الدائم: "أعطِ ما في الجيب، يأتك ما في الغيب" (ص 241)، ولكنّه لم يكتف بذلك، بل "باع تاجه، ووهب أبرشيّته كلّ ما يملك"، وعند انتقاله الى دار الخلد "لجأ المسؤولون الى استعارة تاج من أحد الأحبار لإجراء مراسم الدفن"! (ص 150)؛ ولا عجب فقد وضع نصب عينيه دوما كتابات جمعها ليقتدي بها، ومن ضمنها هذا القول: "الإخلاص يقوم بأن يبذل المرء كلّ ما لديه حتى ذاته نفسها في سبيل الآخرين، وأن يبذل وهو متهلّل"، وكان هذا دأبه، و"عند رحيله، لم يكن يملك من حطام الدنيا شيئًا" (ص 243).

لا يخلو الكتاب من بعض الفكاهة، كسرده لحادثةِ جلد أحد الرهبان للمخدّة عوض جلد نفسه (ص 56)؛ كما لا يتوانى عن ذكر الخلافات بين رجال الدين، ووضع الإصبع على الجرح حيث يجد أن لا بدّ من إظهار الحقيقة مهما كان الثمن، خاصّة حين يتعلّق الأمر بحسنات الفقراء (ص 234- 235). وتستوقفنا في عدّة فصول قصائد كتبها الأديب متري نعمان، والد كاتب السيرة، تُظهر لنا ما يمتاز به شعره من صدق وجمال في التعبير، إذ ينقل أحاسيسه بحلّة أنيقة.

وتنتهي السيرة بشهادات تضيء على وقائع من حياة الأسقف الجليل، كشواهد على قداسته، ولعلّ أبرزها الاعلان عن أنّه هو عينه الكاهن القصير القامة الذي ظهر الى جنب العذراء مريم خلال ظهورها لميرنا الأخرس التي اشتهرت بالانخطاف بشكل عجائبي، وأكّدت ميرنا الأمر عندما عُرضت عليها صور بعض الكهنة، إذ "دلّت على صورة المطران نعمان عاري الرأس" (ص 225)!

في ختام السيرة نجد أنفسنا، وقد اكتملت لدينا صورة الرجل، أمام إنسان بذل حياته لخدمة الناس، مستكثرًا على نفسه كلّ متعة أو حاجة وإن ضروريّة، مقصّرًا في متابعة الأزمة الصحيّة التي أصابت قلبه، موفّرًا ما قد يحتاجه من مال للعلاج، إذ يعتبر الفقراء في رعيّته أحقّ منه به. وفي شهادة لـ الياس الحايك عمّا جرى عند كشف المطران فرنسوا، بصفته نائبًا بطريركيًّا ومدبّرًا لشؤون الأبرشية،على مكتب المطران المتوفى وغرفته، يقول: "ولم يطل الأمر في الداخل، حتى خرجوا... وإذا بوجه المطران مصفرّ، فسألته على انفراد عمّا أحصوه في الغرفة والمكتب، فأجابني: "لقد ظلمت المطران نقولاوس حين قلت لك في دمشق إنه "يتباكى" ويشتكي من أن ليس عنده مال يكفي لدفع معاشات كهنة الأبرشية، الآن أيقنت أنه يقول الحقيقة، لم نجد في الصندوق إلا بضع أوراق نقدية، ومغلّفا كُتب عليه "معاشات الكهنة عن شهر آب"، ورزمة تحوي أمانات لأرامل وأشخاص مسنّين. وأما في خزانته الخاصة، فوجدنا زوجَي كلسات، وثوبين أسودين، أحدهما أجرد اللون للأيام العادية، وآخر بحالة جيّدة للمناسبات، وزوجي قمصان، وسراويل داخلية، حقا كان هذا المطران رجل الله، ونحن لم نعرفه"! (ص 192-193).

قد يعطينا هذا العرض السريع لمحتوى الكتاب فكرة واضحة عن الصفات الحقيقيّة التي نرجوها في رجل الدين، والتي ينبغي أن يتحلّى بها كلّ من كرّس نفسه لخدمة الناس والتخفيف من أثقالهم. نقلاوس نعمان شخصيّة قد نفتقد لأمثالها في هذا الزمن العسير، فهل يكون استحضارنا له فأل خير يُحلّ البركة فيزهو وجه حاضرنا ويزدهي بالخير؟! هذا ما نأمله بشفاعة رجل الله الذي يعرّفنا به هذا الكتاب.

أما لناجي نعمان، فنقول: حسبك أنّك أصدرت جائزة "المتروبوليت نقولاوس نعمان للفضائل الإنسانيّة" لتكون خير تحيّة لـ "عمّو الخوري"،والشاهد الحقيقيّ على رجل عاش القداسة بأعمق معانيها، أكان في التواضع أم في نكران الذات وبذلها في سبيل خدمة الآخرين ولخيرهم، باثّا الحياة حيثما حلّ، فاستحقّ صفة أبي الفضائل بكل أبعادها ومضامينها.





الكلمات الدالة

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم