الجمعة - 26 نيسان 2024

إعلان

فنانون سوريون يتحدّثون لـ"النهار" عن لبنان: هو المخلِّص وبعضهم يراه قاسياً!

المصدر: "النهار"
فاطمة عبدالله
A+ A-

ظننا الأمر قد يُنجز بمزيد من السهولة، وان القلّة لن تخشى الاستفاضة في طرحٍ عن الانسان والفن. بدا ضرورياً التعرّف الى واقع الفنان السوري الذي تربطه بلبنان علاقة اقامة أو تحوّل. من غير المهم أحياناً من أين يبدأ السؤال. نتعلّم في المرة المقبلة ان نتجنّب الانطباع المتسرّع، وألا نتوقّع تقديراً للجهد الذي يبذله هذا البلد من أجل الغير. صُدمنا باختلاط الأمور عند البعض. وإذا بنا نسأل عن الفنان السوري، فنُقابَل من البعض بالسخط والقسوة.


رفض بعضهم الكلام، وبعضهم اشترط التخفّي مقابل رأي مختصر. ثمة من ارتأى ان يكون ديبلوماسياً في تمجيد نظرية "لبنان وسوريا واحد". في نبرة الغالبية خوف، عبثاً حاولت الكلمات المعسولة اخفاءه. ومنهم من راح يتطرّف. وضع لبنان تحت الشمس الحارقة، وبالسياط أخذ يجلده. لماذا؟ لأنه يأوي اللاجئين ويتحمّل هول الأرقام. أو لأن أمراضه امتداد لتراكمات حقبة الوصاية السورية.
يبدو عميقاً الحديث مع الممثل القدير دريد لحام. بأبعاد شعرية، يصوّر علاقته بلبنان، موطن والدته: "أعطاني أجمل ما أملك: أمي". لا بدّ من العبور الى حاضر الدراما. يثني على تجربة "سنعود بعد قليل" التي "وطّدت العلاقة ما بين الفن اللبناني والسوري"، معتبراً ان "لبنان أمّن أرضية لتنفيذ بعض الأعمال السورية، وهذا أمرٌ يُقدَّر". يخبرنا عما قاله للممثلة نادين الراسي: "مميّزون أنتم يا وجوه الدراما اللبنانية، ولكنكم مظلومون نظراً لتقدّمكم البطيء". نسأل إن كان القلب يحمل شيئاً من الملامة أو الاعتراض على واقعٍ سوريٍّ ما في لبنان. يصرّ على التمييز بين "الحوادث الفردية التي قد تحصل، ومنها ما جرى معنا في طرابلس، وبين الشعب اللبناني ولبنان. لا يُعمم سلوك شبّان غاضبين لا يتقبّلون إلا رأياً واحداً. أريد القطع: وطني الأول هو لبنان لكونه موطن والدتي، ثم سوريا. فالأم وطن مثل الأرض. لم يُشعرني يوماً بالغربة". وختم بقول الرئيس السوري الراحل حافظ الأسد: "الشعب اللبناني والسوري هو شعب واحد في بلدين".


يعيش في لبنان معتبراً إياه سوريا والبلد الأحبّ. الفنان علي الديك يشبّه الفنان الناجح بالطائر الذي لا يلغيه المكان. فالفنان، في رأيه، يصنع الموضع الذي يحلّ فيه. والوطن؟ حدّثنا عنه. "لستُ بعيداً من أرض سوريا. أرفض اعتباري لاجئاً في لبنان. اللاجئ يعوز المأكل والمأوى. الفنانون ليسوا كذلك. أواظب على زيارة بلدي بانتظام. لا بدّ من التمييز ما بين واقع الفنان المشهور والفنان المبتدئ. الأخير قد يعاني غلاء المعيشة وصعوبة البقاء. أنا موفّقٌ في لبنان، وسعيد. الحمدلله".
محبَطٌ الفنان الياس كرم. تمهّلنا قبل مصارحته بالأمر، لكنه اعترف: "نعم، أنا محبط". يخبرنا عن جرح سوري لا ينفكّ يمزّقه، وعن "ضريبة" كون المرء سورياً فيحمل آلام الوطن أينما حلّ. يرى في لبنان ملجأ، ويشكره على حُسن الضيافة. يشتاق الحسكة، ومنزله الذي أُصيب بقذيفة حاقدة. الخوف من الموت يجعلنا نتمسّك بما قد نتصوّره أملاً أو خلاصاً. ولكن النقص موتٌ أيضاً: "لم أعد أشعر بالفرح. الفن في لبنان يقترب من التجارة. والميديا أيضاً. يصيبني حنين الى الـLBCI وأيام أهلا بهالطلة. حقاً إن الأيام تتغيّر".



يشاء الفنان هادي أسود الغوص في مفهوم "الحق" بالنسبة الى الفنان السوري. فيصبح اختصار التقصير في مكان بعينه دعابة سيئة: "التقصير في حق الفنان السوري موجود في لبنان وفي غير لبنان". ولكن كيف؟ الجميع يعلم ان أسماء سورية لمعت في لبنان، وأنت بدأت من هنا. من "سوبر ستار"، فتمهّل. يشدد بألا نُؤوّل كلامه، وبأنه لم يعنِ النكران. "انني مرتاحٌ على مستوى العيش هنا. هذا البلد صنعني. بيد ان التعاطي مع الفنان السوري تغيّر. سمعتها أخيراً: أنتَ رائع، ولكنك سوري. غيّر جنسيتك وتعال".
تعمّدنا البدء بمن يكنّون للبنان الامتنان والجَميل والاحترام. أخذت الفنانة ميريم عطاالله الحديث نحو الإيجابية، وشددت على خلو شخصيتها من الافتعال. انطلقت من "ستار أكاديمي"، ولم تنسَ دعم اللبنانيين لها. تشبهها الحياة في لبنان، وترى فيه موضعاً لا مكان للمعاناة في جماله. تفضّل تجنّب التعميم، "فالجميع يعلم ان بعض اللبنانيين يرفض السوري لمجرّد انه وُلد سورياً. تختلف المعايير من شخص الى آخر. أنا أفضّل لبنان. يشعرني بالانتماء والراحة". نسألها هل انها صراحة لم تلمس تداعيات الأزمة في بلادها على واقع الفنان السوري في لبنان؟ يتحوّل الحديث الى الدراما وشروط اشباع النص. "لا شكّ ان بعض الكتّاب اختار مقاربة مختلفة لنصوصه لاستحالة تنفيذها في الشوارع السورية. أثّر ذلك على نوعية الأعمال والفرص المتاحة". يُحسد من يحوّل المأساة ايجابيةً وضحكةً.



يحمل الممثل أيمن رضا على لبنان لكأنه سبب "الحرب الكونية" على سوريا: "لبنان يحوّل المرء من كائن بشري الى دولار(!). غالبية اللبنانيين ضاقت ذرعاً من المادية المتجذّرة في نمط العيش. بات التفكير بالهجرة بمثابة الاحتمال الأفضل". في كلامه تجنٍّ وتعميم وكثير من الاهانة. سيّد رضا، ألا تُبالغ؟ ألستَ تقوّم لبنان وفق الصورة النمطية؟ "أبداً. سأكون أكثر صراحة، يُراد اخضاع الفنان السوري لشروط العمل اللبنانية، وتحديداً لجهة الأجر. يصحّ القول ان نجومية بعض السوريين وليدة علاقات عامة مع منتجين بين دبي وبيروت. لا أخفي حبي للبنان، ولكني لا أستطيع المكوث فيه طويلاً. يفتقد بلدكم لجوهر العلاقات الانسانية. نهشته السياسة حتى العظم، والسعي الى المال. هنا، يشعر الفنان بالعبء المادي، فكيف باللاجئ. لم يساعدني هذا البلد لأكون أكثر من زائر. ولكني لا أستطيع إلا ان أحبّه. أسجد لطبيعته. ولفيروز ووديع الصافي. باتوا يريدون تعويم ثقافة هيفا وهبي". تُرى أيّ الثقافات يجري تعويمها في سوريا؟
هكذا يرانا بعض السوريين: تفتت وتشرذم وتخبّط بين الصخب والهدوء الحذر. نسأل الصحافي والمخرج الوثائقي عمرو خيطو عن علاقته بلبنان. يراه بلداً مفتوحاً على الانهيار السياسي الفجائي، ويشبّهه بسوريا. ولكن كيف؟ لبنان مثل سوريا؟ البقعة الجغرافية التي أوشك الغريب على نهشها، كسوريا التي يُقتل نصف شعبها ويُهجّر نصفه الآخر؟ ثم يصحح: "لم يخذلني بلدكم في حاجتي الى توثيق أمراض المجتمع. هذا عملي. في بيروت أجد المعدّات والناس. وفي ملف اللاجئين، لا يسعنا الا الاعتراف بدور لبنان في الاحتواء. وإنما في لحظة ما، يشعر بالتوق الى التخلّي. سأبرر قبل سؤالي عن السبب. أعتقد انه الشرخ. الانقسام السياسي يجعل بعضهم يحمّل السوريين أخطاء الماضي والمستقبل. في كل مرة أفكر في مغادرة بيروت، أجدني عاجزاً. والدتي لبنانية، لكني لا أنفكّ أشعر اني لاجئ".
لو قُدِّم لبعضهم المنّ والسلوى، لما شكر. نحمل سؤال اللجوء الى الموسيقي هاني السوّاح. اروِ لنا بعضاً من حكايتك مع لبنان. "قدّمت لنا بيروت الحب والمسرح رغم انها مدينة قاسية. العيش فيها مكلفٌ، وقد لا تبتسم أبداً في وجه الفقراء. أتمنى ان تُسوّى الأمور في سوريا، فنعود. بقائي في لبنان ظرفي. تجمعني الموسيقى بوطن يفرّقني عنه تخلّي أبناؤه عن الهوية. لم ألمس مكوّنات شعبٍ وهوية واحدة. ثمة طوائف وأحزاب. أتيت الى هنا بحثاً عن عمل. لست لاجئاً أو نازحاً. من الأفضل ألا نتمادى بالعتب. أتفهّم التقسيم الديموغرافي في لبنان، ولا ينبغي التنكّر للجهود التي تُبذل من أجل السوريين".


نُنهي مع المخرجة لينا العبد، الفلسطينية الأصل والناشئة في الشام. تستعير من "التاريخ" الفلسطيني سخطاً على لبنان. تخبرنا ان الزمن ما قبل الحراك الشعبي في سوريا صوّر لها بيروت مدينة من سحر لا تصدم المرء، وإنما تحيطه بالدهشة. ولكن ماذا حصل في ما بعد؟ "رأيتُ القساوة تجاه الكائن السوري. مؤلمٌ ان نضطر الى استعادة الصور، وإنما لا بأس الآن. عوملتُ بعنصرية، حتى من سائق الأجرة. لا أشعر بالارتياح، وخياراتي قليلة. المفارقة اني حين غادرتُ بيروت في رحلة الى القاهرة، اشتقتها. غريبٌ لغز هذه المدينة". إذاً أتعتبرين نفسك لاجئة؟ (صمت): "لا أدري".
لعلّ اشكالية اللجوء تُحرج بعض الفنانين، فيفضّلون عدم الدخول في "المتاهات". ثمة أسماء اعتذرت بذريعة اعتكافها عن التصريح للصحافة. وأخرى طلبت الاتصال بها لاحقاً، وتنصّلت. آراءٌ قيلت في خانة "الشكوى" أو "الرجاء"، وتمنّت لو تصل من دون أسماء. ناشد بعضهم الدولة اللبنانية إيلاء نقابة الفنانين وحدها متابعة وضع الفنانين السوريين الوافدين الى لبنان، بدلاً من الأمن العام الذي "لا يميّز بين فنان ولاجئ، ولا يقدّر الفن"، وفق توصيفهم. وانتقد بعضهم "معظم البرامج الترفيهية التي تستضيف أيّما شخصيات وتنأى بنفسها عن الأسماء السورية"، ثم كانت أمنية: "حبذا لو يتم الفصل ما بين الفن والتجارة في لبنان، ويُقابَل الفنان السوري بالترحيب عينه التي يُقابَل به الفنان اللبناني في سوريا. ليتنا نحظى هنا بشيء من المعاملة بالمثل".


كان لا بدّ من فرد مساحة حرّة للفنانيين السوريين ليقولوا ما يشاؤون. لم يولّد هذا التحقيق إلا الكثير من الأسئلة. لماذا يحمل "المثقف" الخطاب عينه الذي قد يحمله مواطن عادي لا ينفكّ "يتلقّى" طوال الوقت؟ كثرٌ أوفوا لبنان جهده، وإن كان وفاء البعض من باب حفظ ماء الوجه تجاه الحضن الذي يشكّل فسحة نجاة. مؤلمٌ ان يتمادى في القسوة بعض من يُقدّمون أنفسهم الى الجمهور مثالاً أو قدوة.
[email protected]
Twitter: @abdallah_fatima

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم