السبت - 27 نيسان 2024

إعلان

مَن سرق "الله" في باريس؟

المصدر: "النهار"
كاتيا الطويل- باريس
مَن سرق "الله" في باريس؟
مَن سرق "الله" في باريس؟
A+ A-

الجميع يبحث عن الله. بعضهم يذهب إلى الكنيسة ليجده، وبعضهم الآخر يذهب إلى الجامع أو إلى أيّ نوع آخر من المعابد. 

الجميع يبحث عن الله وأنا أجده في المكتبات. هناك أسمع صوت الله. صوت الحبّ. صوت الخلود. صوت العظمة بين تراتيل المفكّرين القدّيسين.

الجميع يبحث عن الله. بعضهم يستمع إلى خطب رجال الدين. يصدّقونهم. يبتلعون ترّهاتهم. يتبعونهم. يخوضون الحروب من أجلهم. أنا أستمع إلى صخب المؤلّفين والأدباء. أخوض معهم غمار مناكفات وشجارات قد تصل حدّ التضارب. وأجد الله. أسمع صوته يضحك بينما نحن نعجز عن السيطرة على أعصابنا.

هناك مَثَلٌ ظريف يقول إنّ الله يضحك عندما يفكّر الإنسان. فكلّما فكّر إنسان أُصيب اللهُ بالـ fou rire. أنا أسمع ضحكات الله في المكتبة. الله يضحك في المكتبة. يشعر. يفكّر. يشفق على سذاجة الإنسان. الله يضحك عندما يفكّر الإنسان، لأنّ الإنسان لا يعرف "كوعه من بوعه" كما يقولون.

يبحثون عن الله ولا يعلمون أنّه موجود بين الكتب. يجلس هناك على كرسيّه الهزّاز ويضحك. يراقب كونديرا وثرفانتس وفيرجينيا وولف وفوكو ويضحك. هل أفضل من مكتبات #باريس ليستمع فيها المرء إلى ضحكات الله؟

مكتبة صغيرة دافئة مختبئة في عقر الدائرة الحادية عشرة.

مكتبة ملتحفة بضجيج الشارع تديرها خمس نساء جميلات لطيفات. نساء خمس يشذّبن حشائش حديقة الله ويستقبلن القرّاء النهمين.

وبعد...

أتنقّل بين الرفوف والطاولات. أرى على بعض الغلف أوراقًا ملصقة عليها قلوب وتعليقات. غلف أخرى عليها جُمَل مقتبسة من داخل الكتب. أسأل بفضولِ فتاةٍ عربيّة لم تعتد هذا النوع من التصرّفات.  

ما هي هذه الأوراق؟ إنّها آراؤنا. تجيب المرأة بصوتها الرقيق. نقرأ الكتاب ونلصق تقييمنا له على صفحة الغلاف لنسهّل على القارئ مهمّة الاختيار والشراء. لكلّ كتاب علامة وتعليق وقلب صغير.

كتب وغلف وأرواق مجعلكة وخطوط متعرّجة وجنينة ملوّنة تشبه جنّة عدن قبل أن تؤكل التفّاحة.

أتنقّل بهدوء وصمت وخشوع. باريس تعجّ بالمكتبات، لكنّ هذه المكتبة مختلفة. مكتبات متخصّصة كثيرة؛ المتخصّصة بالفلسفة، المخصّصة للأطفال وحدهم، وتلك التي لا تبيع سوى ما له علاقة بالعلوم. غيرها الكثير.

عند كلّ زاوية ومع كلّ إشارة خضراء تظهر مكتبة. يظهر رجل يحمل كيساً من الكتب اشتراها لتوّه. باريس أرض الكتب والمكتبات. باريس المدينة التي يضحك الله فيها بأريحية. قد يكون الوحيد الذي يضحك فيها على أيّ حال، فلا أحد هنا يوزّع ابتساماته بالمجّان.

فجأة في زاوية بعيدة من المكتبة، أقع على امرأة مرتبكة. أراها محتارة بقبّعتها وحقيبتها ومعطفها العتيق. أراقبها من مكاني بفضول طبعًا. وهل أجمل من الفضول في هذه الدنيا؟ إنّه سرّ الحياة والوجود.

Anyway  

على أيّ حال، أفتح كتابًا وأتصفّحه سريعًا من دون أن أشيح بنظري عنها. أظنّها واقعة في مأزق. لا أدري. أراها تتلفّت حولها بتوجّس. أراقبها وأنتظر. ومن حيث لا أدري، أراها تحمل كتابًا وتضعه بخفّة في حقيبتها.

امرأة لم يظهر لي وجهها، إنّما يبدو جليًّا أنّها ترتكب أظرف جريمة في تاريخ البشريّة. المرأة تسرق كتابًا. تسرق ضحكات الله. أنظر أمامي بخجل وابتسامة حمراء تعلو وجهي.

المرأة التي لم أعرف منها سوى ظهرها، سرقت منّي الله!

الكلمات الدالة

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم