الجمعة - 26 نيسان 2024

إعلان

بحثاً عن شاهدَيْن... أيُّ واحدٍ يكفي لهذه المهمة!

المصدر: "النهار"
نجم الدين خلف الله
بحثاً عن شاهدَيْن... أيُّ واحدٍ يكفي لهذه المهمة!
بحثاً عن شاهدَيْن... أيُّ واحدٍ يكفي لهذه المهمة!
A+ A-

"وردني للتوِّ قرارُ المَحكمة النهائي بطلاقي". رسالة نصيَّة أرسلها للتوِّ صديقي راني، المقيم في فِنلندا. فبعد سنواتٍ من الهموم، انفصل أخيرًا عن زوجته، مُنهيًا علاقةً أرهقتها الخصومات والخيانة. كنتُ قد التقيتُ به صدفةً في محاضرة انعقدت بمدينة #براغ. وتطرَّق حينها دافيد بيلوس، الباحث الشهير في الترجمة إلى نقل الشواهد الشعرية، وفخاخ "الجميلة الخائنة". واستمرت علاقتنا، في العاميْن الماضيَيْن، طيَّ الكتمان، تطورت خلالها من دردشات بالهاتف حول مسائل النقد الأدبي، إلى لقاءات حميمةٍ، فيها شيءٌ من لذةِ الشعر، نسترقها على استحياءٍ، وقد نؤول منها بأوجاعٍ. وكلما سمعنا بمحاضرة كبرى حول الأدب الحديث، في أحد بلدان أوروبا، بادرنا إلى التسجيل، حتى نلتقيَ ونضمن لأنفسنا، ليومَيْن أو ثلاثة، شيئًا ولو عابرًا، من الحَنين والغُرور.  

شجَّعه طلاقُه على المُصارحة برغبته في وضع حدٍّ لسرية علاقتنا، وجَعلها، من الآن فصاعداً، "رسمية"، والعبارة مأخوذةٌ من رسالةٍ نصيةٍ أخرى بعثها إليَّ ذاتَ صباحٍ. أجبته بإيمَيْل أستعيده الآن:

"عزيزي راني، مرحبًا

التفكير في زواجٍ جديدٍ هو - في وضعي الراهن- من رابع المستحيلات بالنسبة إليَّ، أولاً مراعاةً لمشاعر ابنتِك الصغيرة، التي أخبَرْتني أنك تَتناوب على حضانتها مع طليقتِكَ.

كما تعلم جيدًا أنني منشغلة كليًا بترجمة كتاب: "السمكة وشَجَرة الموز"، لدافيد بيلوس الذي التقينا به في براغ...وأخيرًا لا أحتاج إلى الزواج لأعيش علاقتي معك. أعيشها كما هي.

أرجو أن نلتقي قريبًا في جنيف، مع حُبِّي".  

بعد شهورٍ طويلة من إلحاحه وتَعللي، انصرفَ راني عن موضوع الزواج، حتى خِلت أنَّه نسيه تمامًا، ولكنه عاد وفَاجأني باقتراح "حلٍّ وسطٍ"، حين التقينا في مؤتمرٍ ثانٍ بمدينتي جنيف، وكنا نحتسي الشاي، بأحد مقاهي رو دي لاكوفديراسيون الفاخرة:   

- لماذا لا نعقد زواجًا عُرفيًا، يقينا "التورطَ في المهالك" ويخفف من ندمِنا الذي يتجدد كلما تلاقَيْنا.

- "ندمنا" بضمير الجمع؟ أنا غير نادمةٍ على شيء. لقاءاتنا أحلام، وسؤالٌ في السياسة ونبضٌ من "الجُور والفُجور"، وكلها من الحياة.

- لن يكلفكِ الزواج العرفي شيئًا، وسيريحنا من وَخز الضمير. الزواج شرعيٌّ، أو لا يكون.

- سيُريحكَ أنتَ، بالإفراد لو سمحتَ. رجاءً لا تقارنِّي بالمهاجرين المغاربة الذي يتزوجون هنا، في قلب جنيف، بمجرد قراءة الفاتحة خفيةً، في غرفةِ بمصلًّى باردٍ، لإقناع أنفسهم بِطهارة الحب، وهم في الحقيقة يبررون نبضًا عابرًا "من الفجور". الجسد جُرأة أو لا يكون. هو مسؤولية "رغم الشرور". وبعض الزيجات خيانةٌ، مثل ترجمة الشعر...

- لنتزوجْ عرفيًّا، وغادريني بعدها إن شئتِ. كان ابن بطوطة يتزوج كلما مرَّ بجزيرة، وقد تخلعُه زوجةٌ فقيرة، وهو القاضي المَهيب.

- أتقارنني بزوجةٍ عابرة لابن بَطوطة، في أحد أسفاره بجزيرة تائهة؟

- تعجبني طريقة هذا الرحالة في تدبير أمر الجسد. لا خيانة ولا آداب.

- أنا أعيش في سويسرا من عشرين سنة، وحاصلة على جنسية هذا البلد، وأزاول مهنتي في TCL (الحروف الأولى بالفرنسية لـ: ترجمة الشواهد الأدبية) أعرقِ مختبرات البحث بجنيف...فابن بطوطة ...يعني..

- هو مجرد شاهد من التاريخ. المهم عندي أنْ أرْسيَ معك على برٍّ، كما أرسى يومًا قاربُه على جزر المالديف.

- أنا تونسية. ربَّانا الزعيم بورقيبة على تحقير الزواج العرفي، واعتباره من جهالات الماضي. في بلدي، العُرْفي جريمةٌ يعاقب عليها القانون.

- بما أنَّك تونسية، ألا تعلمين ما قال ابن رشد عن "شروط النكاح"، في الفقه المالكي؟

- أتورطني بشاهد آخر من التاريخ؟ لماذا اخترتَ ابنَ رشدٍ من كل الفقهاء؟

- هكذا، محض صدفةٍ. التاريخ ماكِرٌ، ولا نعلم كيف يعود وأين. هذا كتابُ "بداية المجتهد"، حمَّلته هذا الصباح على التابلويد، حين كنت أنتظر دوري عند الحلاق. افتَحي الباب الأول، الصفحة الثانية.

- فَتحنا: "في شروط العقد: اشتراط الولاية في صِحَّةِ النكاح، والصَّدَاق، والشهود..."،

- أرأيتِ. الشروط كلها بَسيطة: لا يجبُ أن يتولى أمركِ وليٌّ، فأنت لستِ "بِكْرًا"، الصداق: تكفي بضعة يوروهات. المسألة في الشاهدَيْن...كيف نجدهما؟

- لا أعرف أحدًا في جنيف، وما زرت مساجدها قطُّ، عدا إطلالة خاطفة للمركز الثقافي، أثناء محاضرةٍ عن الجسد وإملاءات السياسة بين الحداثة والتراث.

- ألا تعرفين أحدًا هنا؟ لا يمكنني جلب الشهود معي من فنلندا.

- لا أعرف أحدًا. قضيت سنواتي العشرين هنا في مختَبر TCL، وترجمة الكتب النظرية عن علم الترجمة، وبعض زيارات مجاملة للزملاء الأجانب. ما كان زوجي يطيق الزيارات ولا المساجد.

- ليس من الضروري أن تعرفي الشهود، أيُّ واحدٍ يكفي لهذه المهمة.

- كيف تريدني أن أجد شاهديْن أو حتى شاهدًا واحدًا؟ وكيف أشرح له قصتنا منذ اللقاء الأول ببراغ في محاضرة "ترجمة الشواهد الشعرية" إلى الشهادة على زواجٍ؟ تصور أن يَتصل بجريدة Le Temps للتبليغ عن حالة "زواج عُرفي" تَعقدهُ مُثقفة، تنتمي إلى مختبر بحثي عريق؟

- لا تغضبي، تَحدثي مع أشخاص بسطاء: مثل بقَّال الحي التونسي، أو أحد مُرتادي الحانة من المهاجرين العرب. اقرئي هذه الجملة في "بداية المجتهد": "أبو حنيفة ينعقد النكاحُ عندَهُ بِشَهادة فاسِقَيْنِ"...

- وإذا طالبني هذا "الفاسق" بفِدْية؟ وسجَّل لقائي معه بهاتفه الخفي، ثم هددني بإرساله إلى إحدى جرائد الاستقصاء السويسرية أو التونسية؟

- أيتحول الشاهد إلى مُهددٍ؟ "الشاهدُ يشهدُ. والرئيس يحكم". أما تزالين ترتعدين من بورقيبة؟ كيف لشاهدٍ أن يطالبَ بتبريرٍ عن تدبير الجسد؟ ألسنا في معقل الحرية؟

انفضت جلستُنا دون أن نصل إلى حلٍّ يرضينا.

بعد شهريْن، التقينا من جديد في جنيف بمناسبة مؤتمرٍ، واغتنمنا الفرصة لعقد قِران عُرفيٍّ، في مقهى فاخر، تضيئه فوانيس، مثل تلك التي أضاءت حَمراء قرْطبة. جلسنا على أرائك مخملية وثيرة، في انتظار الشاهِدَيْن اللذيْن بعث لهما راني - عبر الواتساب - دعوةً للشهادة دون تحديد موضوعها. أجابا بالموافقة، ولم يسألا عن شيءٍ. ولكنْ لم يأت أحدٌ. وطال الانتظار، وفجأةً، انقسمَ راني نصفَيْن، وخرج منه رَجلان يُشبهانِه مع فروقٍ طفيفةٍ: الأول: مثله ولكن لحيته طويلةٌ وشارباه كثيفان. والثاني مثله أيضًا ولكن دون شعرةٍ واحدة في الرأس، يحمل نظارات شمسية سوداء. سَلَّما، وأخبرانا أنهما جاءا يَشهَدَان:

"ما زلتَ تُحبه رَغمَ كلِّ الشّرور

ما زلت تعشقه، رَغمَ الجور والفجور

ما زلتَ تَحنُّ إليه

رغم ما فيه من غُرور

قلبي، وَيحكَ قلبي"

ومثل ثنائي مسرحي، أنشدا هذا الكلام.

قلتُ لهما مندهشةً: هذا مِن شعر نزار قَبَّاني الذي أكد: "لا يمكن للشعر أن يكون شاهدَ زورٍ."

حاولت ترجمة هذه الأبيات. ما أعسر ترجمة الشعر، ناهيك بشواهده وعيونه. تذكرتُ مُحاضرتنا في براغ، عن نقل الشواهد الشعرية، وشكرتُ المُنظمين في سرِّي.

الكلمات الدالة

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم