الجمعة - 26 نيسان 2024

إعلان

قتلتُ أمي لأحيا*

المصدر: "النهار"
مي منسى
قتلتُ أمي لأحيا*
قتلتُ أمي لأحيا*
A+ A-

"عسى تصل رسالتي بعد طول الغياب، كتبتها على الرمال المنبسطة أمامي كورقة عذراء وانتظرت رجوع الموج ليحملها إليك". 

أتكون الأحلام الليلية سبيلاً إلى إعادة الاتصال بين الأحياء والأموات؟

أتكون جسر عبور من وهم الحياة إلى حقيقة الموت؟

بارع هو الليل في استحضاره أشخاصاً مرّت على غيابهم عقود وسنوات ولم يرحهم الموت مما تكبّدوه في الحياة من خسارات ظالمة، ولا أزاح عن كواهلهم في سكناهم الهناك، ثقل أحقاد ومآىس بقيت حتى آخر نسمة تنخر نفوسهم. يعبرون جدار المنامات، سبيلهم الوحيد لتضليل الموت، ليفضّوا أموراً عالقة، غافلهم الموت من دون أن يتمكّنوا من حلّها. فلا أفاجأ بهم. كأني في انتظارهم. من أصواتهم أستدلّ عليهم، لا بلهفة الشوق والعناق. غرباء أصبحوا، مذ انتقلوا إلى الضفّة الأخرى من الوجود.

ما سرّ هذا الخزّان الدماغي يا تُرى، يجعل الوسادة مسرحاً عبثيّاً حالما أغطّ في النوم، ينتقل بي إلى أماكن مفكّكة معالمها، كبناء هشّ قام من خلايا الدماغ بلمحة، من دون تخطيط سابق، ليحتوي الحلم وغرائبه. أتحاكى مع أشخاص أعرفهم من أصواتهم، أسمعهم والصوت صدىً آتٍ من أزمنة بعيدة، يتشابك، في ارتداده إليّ، بهواء ساخن مشحون بأوراق يابسة لا أرضية لها تريح زوغانها. يأتون ليتفقّدوا البيت المهجور، فتسألني المرأة، التي عرفتها أمي من صورة زفافها إلى جانب أبي، عن فستانها الأسود، وفي نبرة صوتها أستشعر لوماً على استغلالي رحيلها لأعبث في جهاز عرسها.

رحلت أمي عنّا بجسدها وظلّت روحها هائمة حولنا، تبحث عني في المنام لاستعادة شبه دور، ولو شحيح من أمومتها، وربما مكانها في صورة عرسها. إرث زهيد حملته في متاع تنقلاتي من بلد إلى آخر، ولا سيما فستانها الأسود المخملي الذي فرضته على ضياء العجمي المخرج، في أدائي شخصية دورا، المرأة الأسطورية التي أطلقتني من رحم المسرح حيث كان يجب عليّ أن أولد وأصارع قدري بقدر شخصيات التراجيديا.

الخشبة الليلية، في احتوائها جنون امرأة، بعشقها وغيرتها القاتلة وثأرها، كانت في آن تخرق الجدار الذي انطويت في داخله منذ الصغر وتحرّرني منه:

المدينة تقرع حداداً على موتي. ها أنا أمامكم بفستاني الأسود أنعى إليكم ما هو أشرس من الموت: الثأر، أقولها فيجتاحني شعور بأني آتية من عالم آخر، والواقف أمامي يحاورني هو "أنا"، هذا الرفيق الذي قوّى خيالي وأوهامي مذ مضيت في دروب الحياة بمفردي، أبحث عن نصفي الآخر لأكتمل.

البيت الذي أسكنه في المنام شبه مهدّم، خالٍ من أي شيء سوى فوح الكمّون والقرفة، المعشش في مسام المطبخ. غرفة النوم التي كنت أتقاسمها مع سناء، أختي، اختلطت بالمقصورة التي كنت أتهيّأ فيها للخروج من أناي إلى جنون دورا، الدور الذي انحفرت فيه حتى لم يعد لي اسم سواه.

دورا، دورا، كيف تغلغلت فيّ هذه الشخصية لتقودني إلى اكتشاف من أنا، إنسانة منسيّة في فقاعتها، لا اسم لي في ذاكرة الناس سوى اسمها، حالما أتدثّر بفستان أمي الأسود أصير هي، فأشعر بطاقة خفيّة تأخذني إلى أمكنة عالية، ومن صوت الآتي من الجحيم أصرخ:

"ها أنا أهب روحي للظلمة، للصمت، للغياب".

ليالي المنامات كانت غالباً ما تأخذني إلى بيت عين الشمس المغلقة شبابيكه على غياب المرأة التي عبرت في حياتي كالخيال ولم تترك أثراً يحكي عنها، سوى ما ظلّ معشّشاً في مسام المطبخ من أعشاب فوّاحة كانت تأتي بها غمرات من غدواتها في البراري. فما كانت سلمى جدة والدي ترويه لي أثناء إقامتي عندها، تحوّل مع الوقت إلى قنوات الأحلام، أجمع عند اليقظة من أسمالها مادة للكتابة، وعند مراجعتها، أتحسّس الفاجعة التي واكبت حياتي، بتمزّقاتها، إنطوائيّة في عالمي الجوّاني، ومنفيّة من حياة من كنت بحاجة إلى جناحهم لأتدفأ. المنامات كانت تفوّقي على العدم. لقد أعادتني إلى حيث كان يجب أن أكون.

كنت في حيرة من أمري أبحث عن فستان دورا الأسود، المخملي، في خزانة أمي المقفلة بعد رحيلها ولا أجده. تتناهى إلى سمعي نتف أصداء أعزوها إلى تململ الجمهور في الصالة، سببه التأخير الناجم عني. أصبحت المنامات البديل من الذاكرة، تتسلّل إلى مناطق اللاوعي وتكشف نوره الضئيل. هو هذا المختبر الذي يعجز الوعي عن تحليله الذي دلّني على الكتابة. أهبّ من نومي قبل أن تذوي ملامح البيت والأشخاص الذين أتوا على غفلة وفي نياتهم عتب وفضّ حسابات عتيقة. أتكمّش بذيول الحلم وأبدأ أحفر على الورقة ما لم يمحه بنزوة طائشة من كفّ يده. الصلة المعقودة بين المنام ولحظة الصحو كنت أتصوّرها في هذا الخط الوهمي الفاصل بين الليل والفجر الشحيح، أتأمّله بأسراره، مسنوناً بيد ذلك المهندس الذي استعمل العدّة ذاتها في فصله الماء عن اليابسة. أهبّ من نومي كقارئة الغيب وفي أصابعي شعوذات أطيّرها في سماء الورقة كالعصافير التي يخرجها المشعوذ من كمّه ليبهر بها الأولاد. المنامات، لا تزال مذ اختارتني الوحدة لأسمع رنين الوقت أعلى، صلتي بالأموات وكل من أسدل الغياب بيني وبينهم. يأتون إليّ ليلاً لأحرّرهم من سلطان الموت، كأني بإعادتهم إلى عالمي الافتراضي، أكشح شبح الوحدة عني. هكذا صارت الأحلام مورد وحي للكتابة. أدمنت الليل لا للراحة والنسيان، بل لأتموّن من كليشيهات سلبيّة مرميّة بين نفايات الذاكرة، أعيد تظهيرها في محلول الحبر، مادة لرواياتي، إلى أن تفاجأت بالبرقية الصوتية وأنا في حال من الشرود الصحويّ، هذه اللحظة المجنّحة التي تكسر في عبورها حكايات الليل.

"عسى أن تصل إليك رسالتي بعد طول الغياب، كتبتها على الرمال المنبسطة أمامي كورقة عذراء وانتظرت رجوع الموج ليحملها إليك".

الصوت عرفته من دون أن يتلعثم به خيالي. فكيف عساي أنساه وهو من فئة الدم ذاتها التي تكوّنّا منها في رحم أمنا. صوت سناء إن غضبت أم ضحكت كان دوماً تعبيراً عن تمرّد متأجّج في داخلها. إبتعادها عنّي كان سبباً لتفاقمات صامتة زعزعت حجارتي. الكتابة صارت أنيسي. الدفتر تحت فراشي ينتظرني لموعد سرّي حميم، حتى إدماني الكلمة، أتنشّقها بملء رئتيّ لأتحسّس مفعولها السحري عليّ. ألوذ إليها للتفوّق على ما أنا عليه. قد يكون الانفصام الذي أبعد التوأمين إحداهما عن الأخرى، وإن ترك جرحاً لم يندمل، تحوّل على ورقتي إلى موقع أركيولوجي. أحفر في أعماقه ككشّاف الينابيع بحثاً عن توأم ألده من ذاتي، أبديّاً فيّ، يعيرني قلمه لأكتب، يحرّر اللحن العالق في حنجرتي، فأسمع من واحة صمتي شدو عصفور يبهج ليلي بتغريده.

"مع الوقت، حين تمكّن ذلك الشعور فيّ، اكتنزت كتابتي بالحوارات، وصار تلقائيّاً للسؤال جواب وللجملة المتعثّرة، أصابع تهرع إلى نجدتها وتحلّ عقدها، فالمتوحّد يتمتّع دون سواه بهذه العشرة الدائمة مع ذاته، يتقاسمان الحلو والمرّ، الحرّ والبرد، يتدفآن في معطف واحد، يأكلان في صحن واحد، يتسامران، والتبادل بينهما بصوت واحد...".

* من رواية لمي منسى بالعنوان نفسه، صدرت للتوّ لدى "دار الريس".

الكلمات الدالة

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم