السبت - 27 نيسان 2024

إعلان

"ما اسمك؟"... كاكا عبد الحليم حافظ!

علي السباعي
"ما اسمك؟"... كاكا عبد الحليم حافظ!
"ما اسمك؟"... كاكا عبد الحليم حافظ!
A+ A-

أراقب بشغف طفولي لهو الأرانب البيض والسود، الرمادية والبنية، الكبيرة والصغيرة، السمينة والضعيفة، النشيطة والكسولة، الذكور والإناث فوق عشب السهل الممتد بلون الحبر الأسود المخفف بالماء من على جانب الرصيف الأيمن لشارع سالم. أحث خطاي ماشياً، ترتفع الجادة بتقاطعاتها سابحة داخل بحيرات ضوئية تتدفق متلألئة فوق زجاج واجهات المباني الحديثة العالية. تابعت صعودي فرحاً نقياً فوق رصيف شارع سالم في مدينة السليمانية، مدينة السليمانية الحديثة التي تأسست يوم 14 تشرين الثاني 1784، على يد الأمير الكردي إبرهيم باشا بابان، وسمى المدينة بالسليمانية نسبة إلى اسم والده سليمان باشا، أحد أمراء سلالة بابان. 

كان الوقت ليلاً، والجو بارداً برودة منعشة لأننا كنا في كانون الأول. مناخ المدينة حار ومعتدل صيفاً وبارد جداً شتاءً. لحظات جميلة مرت، لحظات ناصعة عشتها أثناء سيري أتابع الأرانب الجبلية في بحثها عن شيء تأكله. كنت وحيداً في زحامي النفسي، أواصل بحثي عن حياة تتسع لأحلامي مزدحماً بوحدتي. لحظات فضية باردة من ليل كانون الأول، نجوم ليل كانون انكدرت، انتشرت الظلمة في السماء، والوحشة تغطي الجبال السود المحيطة بالمدينة، لولا مرور الغيوم المبحرة في الفضاء الأزرق الداكن لتضيف ترقباً عجيباً. أسمع موسيقى حزينة أشد حزناً من حزني، الليل خالٍ من النجوم، هذه الليلة كانت السماء ترقد بسحر غامض في بحرها الأزرق الداكن السيال. موسيقى أيقظت قلبي من فرحه. أضواء إنارة أعمدة شارع سالم العريض ذهاباً وإياباً صعوداً ونزولاً تضيف هي الأخرى عمقاً مضيئاً، أضواء مصابيح السيارات السريعة تضيء بشدة أثناء مرورها مسرعة في غدوها ورواحها بقوة تضيء الطريق والسفح والبنايات والأشجار والمارة والعلامات المرورية ولوحات الإعلانات المعدنية ولوحات إعلانات كبيرة تضم صور المطرب التركي إبرهيم طاطلس مستثمراً، تضيئها، وبشدة تخفت، وتغيب هذه الأضواء مثلما تتوارى الأرانب في جحورها. كانت عيون الأرانب تضيء لامعة نتيجة انعكاس أضواء مصابيح السيارات على عيونها وهي تلهو في أعلى الوادي أمامي، تكشف نيونات الشارع كنوز أجساد الأرانب البيض الناعمة كالحليب، والأرانب السود الطرية كالليل، والرمادية وافرة كحزن حياتي، والأرانب البنية المكتنزة كهباءات أيامنا. ثمة نجم يضيء في المدى القريب، أظنه قمراً صناعياً، كان ضوؤه مكملاً لهرمونيا اللون أمامي، داخل عيني، رمادياً، وأزرق داكناً، وأزرق بتدريجات مختلفة تراقص تارة بين غامق وفاتح حسب مرور حركة أضواء مصابيح السيارات الآتية التي تسلط ضوءها على وجهي، تشيع البهجة في النفوس مع تساقط قطرات المطر التي تتراشق متلامعة أمام عيني الجنوبيتين بفعل انعكاس ضوء مصابيح السيارات أثناء نزولها السريع. تتراص الأبنية الحكومية من على جانبيه، وتملأني الموسيقى الحديثة الصافية كتميمة آسرة تشبه السحر.

من بعيد التقطت أذناي الموسيقى الساحرة العذبة والخفيفة لأغنية العندليب الأسمر، "زي الهوى". إنها السحر الذي استولى على روحي وقلبي وعقلي، سحرتني الموسيقى، وسحرني حزن الأسمر عبد الحليم حافظ رغم حبوري الكبير حتى امتلأت بالحزن إلى أقصاي، وفضت بالحزن حزناً. كان صوت عبد الحليم حافظ يملأ شارع سالم كله، ويضيء أرواح المارة المتبضعين بحزن ابيض منسي، كأن صوته يتدفق من ينابيع أرواحهم المعذبة عشقاً. رحت أردد ما كتبه صديقي النبيل الشاعر العراقي المبدع أديب كمال الدين في حق العبقري عبد الحليم حافظ:

حين انكسرَ فنجانُ القهوةِ المرّة/ ما بين أصابع العندليبِ المرتبكة،/ سالتْ روحُه العاشقة/ وسطَ حنين الناي وأنين الكمان.

كانَ مطربُ قارئة الفنجان/ عبقريّاً بما يكفي/ ليركبَ درّاجةَ النجومِ الهوائيّة/ ويغنّي عن القمر،/ قريباً جدّاً من القمر،/ ويفتنَ ألفَ سندريلا وسندريلا/ بألفِ أغنيةٍ وأغنية./ كانَ عبقرياً، إذن، ليكونَ نجم النجوم.

لكنَّ قارئ الفنجان الذكيّ/ ومطرب قارئة الفنجان العبقريّ/ الذي روّضَ الفقرَ والجوعَ والحرمان/ وروّضَ الحظَّ المُمَزَّق/ مثل ثياب المُهرّج/ وروّضَ ألفَ سندريلا وسندريلا،/ روّضتْه جرثومةُ البلهارسيا التي لا تَرى/ ولا تُرى!

كانتْ أذكى من عبقريّته اللامعة/ وأعظم حظّاً من نجوميّته الساطعة./ فانكسرَ فنجانُ القهوةِ المرّة/ ما بين أصابعه العاشقة/ حتّى سالتْ روحُه العذبة،/ وهي في قمّةِ الحبِّ والشوق،/ وسطَ دموع الناي وأنين الكمان.

صرت أقترب، وشدو العندليب يهزني بألم. كنت ألتاع، ولوعة صوت العندليب صارت تبكيني، تمطرني بكاءً كلما جهدت في صعودي شارع سالم صوب مركز مدينة السليمانية. كانت مدينة السليمانية عاصمة لإمارة بابان الكردية، وظلت مدينة السليمانية عاصمة الإمارة البابانية حتى العام 1851، منها أعلن محمود البرزنجي التمرد ضد الاحتلال البريطاني في 22 أيار 1919. ألقى القبض على المسؤولين البريطانيين فيها، وأعلن دولة مستقلة للأكراد، والسليمانية عاصمتها. أعلن الاحتلال البريطاني اعترافه بهذه الدولة وبمحمود البرزنجي ملكاً عليها لإسكات سكانها.

 خلفت الأرانب ورائي. مطر شهر كانون الأول منعش وجميل يضرب وجهي، يغسل جبهتي، يطهر روحي. ناعم وسريع يزداد كلما حثثت خطاي صعوداً. راحت الذكريات تنهال مثل نهر عذب، ذكريات الحب الأول. دنوت أكثر وأكثر من صوت حليم، كانت دموعي تنهمر بغزارة، كان الجو بارداً برودة منعشة حلوة. برودته الحلوة وقطرات المطر ودموعي المنسابة بغزارة جعلتني غير قادر على الرؤية أمامي. ما عدت أرى لأن غناء حافظ سلب لبّي وصعد إلى قلبي، احتل نسغ روحي حتى صرت أمام مصدر الصوت. رجل في عقده الخامس، ممدداً جسده الهزيل على أسفلت الرصيف الأسود الناعم، يتكئ على جانبه الأيسر، يرتدي بذلة سوداء تشبه بذلة عبد الحليم حافظ عندما غنى "رسالة من تحت الماء"، معطلاً، معطوباً، يفترش الرصيف الإسفلتي العريض من شارع سالم الأيسر في اتجاه قلب المدينة صعوداً، قلب مدينة السليمانية النابض بالناس، يعطي ظهره لطريق السيارات، مولياً قدميه الطويلتين في اتجاه مركز المدينة، والسابلة يمرون أمامه أزواجاً وفرادى وجماعات، سابلة سماناً وضعافاً، طوالاً وقصاراً، ذكوراً وإناثاً، ذكوراً صلْعاً وبشعر، حليقي اللحى وبلحى طليقة، لحى مشذبة ولحى شعثاء، حليقي الشوارب وبشوارب، شوارب كثة وبشوارب قصيرة، بالزي الكردي وبالزي الرسمي، نساء شابات وكواهل، نساء بالزي الكردي التقليدي وبالزي الغربي، تقع خلفه بناية المكتبة المركزية في مدينة السليمانية. وقفت أمامه، أمامي بناية المكتبة العامة في مدينة السليمانية، الليل جميل والهواء عليل، والمطر أخذ يتراجع. وقفت أنظر إليه بعينين مخضوضبتين بالدموع، يؤدي حركات حليم بشكل ساحر مع إيقاع موسيقى "زي الهوى" الصادحة في الفضاء الأسود ذي النجوم الفضية البيضاء. انتظرت. انتظرته حتى يفرغ من وصلته في الغناء وقيادة الفرقة الموسيقية التي لا وجود لها، يلوح في الهواء بالحركات التي أداها سابقاً الراحل عبد الحليم حافظ. انتظرته باكياً، صرت أجهش بالبكاء بصوت عالٍ، أبكي بشدة وبحرقة لأن الرجل المعاق يقلد حركات العندليب الأسمر وهو يغني "زي الهوى"، يقلده في كل مقطع، يقلد حركاته في كل "كوبليه"، مثلما يفعل عبد الحليم حافظ، يقلد حركاته نفسها، حركات يده اليمنى رغم إعاقته. كل إيماءة كانت احتراقاً. انتهت "زي الهوى"، دموعي ملء قلبي، تصعد حتى عيني، فتمطران حزناً على وجنتيَّ اللتين تستقبلان مطر كانون بلسعاته الحلوة. قرفصت قبالته، بيننا قطعة المقوى التي تزينها صورة عبد الحليم حافظ وهو يغني "الهوى هواي". كان يضع فوق الصورة جميع أشرطة الراحل عبد الحليم حافظ، كانت عن يمينه مسجلة سوداء نوع "سوني سوبر ستريو" بسماعتين كبيرتين عاليتي الصوت وفائقتي الجودة، وبجانبها بطارية سيارة كبيرة تديم عمل المسجلة الضخمة، وأمامه كل أشرطة كاسيتات العندليب الأسمر. هم باستبدال شريط أغنية "زي الهوى" بواحدة أخرى. قرفصت قبالته، سألته بمودة وبصوت متحشرج تخنقه العبرات مع ابتسامة خفيفة سافرة:

- كنت أتصور أنني الوحيد في العراق كله يحب سماع العندليب الأسمر!

انتبه لقرفصتي أمامه، رمقني بطرف عينيه، قسمات وجهه مندهشة، يشع من عينيه تحدٍّ غريب، بدا وجهه النحيف مشعاً بالتحدي، رأسه الطويل تغطيه تسريحة الساحر الأسمر عبد الحليم حافظ. خدان شاحبان تتموج فوقهما أنوار السيارات. ترك كاسيت المسجلة فوق الورق المقوى عن يمينه، ابتسم بوجهي الجنوبي الأسمر ابتسامة المتبجح، أشعل سيجارة لنفسه، أحسست برغبة لتدخين سيجارة لكنني أحجمت عن ذلك، سحب نفساً عميقاً من سيجارته التي اتقدت، أشتد توهج جمرها، وصار جمراً، تركها أمامه على أسفلت الرصيف، وضع شريط الكاسيت في المسجلة، صدحت الأنغام، إنها "قارئة الفنجان". خفض الصوت قليلاً، أمسكني من ياقتي، ياقة قميصي الأبيض بيده اليمنى السليمة المتسخة مستفزاً. يبدو أن سؤالي استفزه. سألني بغرور محبب قائلاً بحدة ومزاج عكر:

- أتعرف متى ولد؟

التزمت الصمت، لم أجبه، أجاب بصوت مبحوح:

- ولد في 21 يونيو 1929، في قرية الحلوات التابعة لمركز الإبراهيمية محافظة الشرقية.

ساد بيننا صمت طويل، حافظت على صمتي، نظر إليّ نظرة عميقة وسألني كاسراً للصمت الذي نشب بيننا:

- أتعرف أسماء أخوته؟ وكيف نشأ؟!

حركتُ رأسي ذات اليمين وذات الشمال دلالات على النفي وعدم معرفتي. اصطنعتُ الجهل، وعدم المعرفة. اتخذتُ الصمت سبيلاً لإخراج ما في داخله، لأنني أعشق العندليب الأسمر حد الوله، وأعتبره إنساناً استثنائياً بحسه الإنساني العالي وصوته الجميل. زفر بوجهي بحنق، وكأنه زفر كل ذكرياته التي غارت في التجاعيد التي تملأ وجهه الطويل النحيف الأصفر، تابع إجاباته عن الأسئلة التي يسألني إياها:

- حليم الابن الأصغر بين أربعة أخوة هم إسماعيل ومحمد وعلية. توفيت والدته بعد ولادته بأيام، وقبل أن يتم عبد الحليم عامه الأول توفي والده ليعيش اليتم، عاش بعدها في بيت خاله الحاج متولي عماشة. كان يلعب مع أولاد عمه في ترعة القرية، ومنها لنتقل إليه مرض البلهارسيا الذي دمر حياته.

أطرقت حزناً، كانت العتمة تسود كل شيء، والضجيج سيد المكان، سألني بنبرة ليّنة:

- أتعرف اسمه الحقيقي؟

سكت. نظر إليّ نظرة عميقة وأجابني كمقاتل يخوض حربه الأولى:

- عبد الحليم شبانه.

كان يوم الثلثاء 15/12/2015، لذت بصمتي، والعتمة تغطي المدينة، الليل هادئ، وساكن، قال متسائلاً:

- أتعرف من اكتشف العندليب الأسمر؟

التقت عيوننا، أردت أن أنطق إلا أنه لم يمهلني، كأنه عرف بماذا أفكر، أجاب ناقماً عليَّ لجهلي:

اكتشفه الإذاعي الكبير حافظ عبد الوهاب، الذي سمح له باستخدام اسمه حافظ بدلاً من شبانه.

مسحت دموعي بظاهر كفي اليمنى، نظرت إليه، كان باستطاعتي أن أرى عينيه تومضان بمكر، كأنهما عينا فأر ماكر تتحركان وتطرفان بشدة في محجريهما على أنغام موسيقى "قارئة الفنجان". تساءل ببسالة:

- أتعرف كم عملية جراحية أجريت له؟

حقيقة لا أعرف، أجاب بنبرة تأملية نادرة باردة:

- أجرى خلال حياته إحدى وستين عملية جراحية.

تعجبت. شاهد استغرابي ودهشتي، رأيت في عينيه نظرة عنيدة باردة. توقف زخ المطر، بدت الأشجار الطويلة الداكنة تلمع تحت أضواء مصابيح الشارع، أعمدة الكهرباء طويلة ناحلة يشع ضوؤها الأصفر فوق جلستنا، يغمرنا نور مصباح الشارع. أكمل أسئلته وأجوبته:

- أتعرف كم أغنية غنّى؟

زحفت الظلمة بسرعة، حاصرتنا، وانزلقت بنشاط فوق المدينة. أخشى أن أكون فقدت زهوي، كنت أعرف ولا أرد عليه لأنه وسّخ ياقة قميصي الأبيض، أجاب بتبجح:

- قدم عبد الحليم أكثر من مئتين وإحدى وثلاثين أغنية.

قرأت بوضوح ما دار في ذهنه، تساءل بلهجة هادئة انبثقت من روحه:

- أتعرف في أي سنة أجيز عبد الحليم حافظ في الإذاعة؟ وعلى أية أغنية ؟

رحت أنظر بعينيه المزهوتين، وصار ينظر إليَّ مندهشاً، ويكمل أجابته عن سؤاله:

- أجيز عبد الحليم في الإذاعة عام 1952، بعدما قدم قصيدة "لقاء"، كلمات صلاح عبد الصبور، ولحن كمال الطويل.

عارضته بسخرية لأستفزه وأنا أنظر بفتور وغرابة:

- إجازته كانت في عام 1952، بعدما قدم أغنية "يا حلو يا أسمر"، كلمات سمير محجوب، وألحان محمد الموجي، وعموماً هناك اتفاق أنه غنى "صافيني مرة"، كلمات سمير محجوب، وألحان محمد الموجي، في آب عام 1952، ورفضتها الجماهير من أول وهلة حيث لم يكن الناس على استعداد لتلقي هذا النوع من الغناء الجديد.

السماء شاحبة والسحب بلون رماد سيجارته التي شارفت الانطفاء أمامه. عقّب على جوابي نافد الصبر، وبنبرة تعجب عالية بعدما سحب نفساً من سيجارته المطروحة أرضاً:

- لكنه أعاد غناء "صافيني مرة" في حزيران عام 1953، يوم إعلان الجمهورية، وحققت نجاحاً كبيراً، ثم قدم أغنية "على قد الشوق" كلمات محمد علي أحمد، وألحان كمال الطويل في تموز عام 1954، وحققت نجاحاً ساحقاً، ثم أعاد تقديمها في فيلم "لحن الوفاء" عام 1955، ومع تعاظم نجاحه لُقّب بالعندليب الأسمر.

كنت محاصراً ومعزولاً في عالم بارد ومليء بالمطر والغناء والأسئلة والغربة. ثمة أغنية ناعمة تنبعث من مسجلة الرجل تلامس روحي بحنوّ وتداعب سكون الليل وأنوار شارع سالم وتطير هذه الأنغام العذبة للمقدمة الموسيقية لأغنية "قارئة الفجنان" التي أبدع في تلحينها الملحن العبقري محمد الموجي تطوف بين أغصان الأشجار في الحدائق المحيطة بنا. في هذه اللحظة كان الليل في بدايته، والموسيقى ناعمة تنبعث من المسجل، ودفعات الريح تلاطف الوجوه بحنو، أخذ يبتسم متسائلاً:

- أتعرف مَن من الملحنين تعاون معه؟

الغيوم البيض والرمادية والزرقاء الداكنة بدأت تتلاشى، لتتلبد بسرعة في السماء المكفهرة فوقنا. أظلم الشارع شيئاً فشيئاً، الريح راحت تعصف بالأشجار فتحني أغصانها وتتناثر أوراقها. كنت ساكناً وحزيناً، سكتُّ عن قصد، لكنه ظل ينتظر حتى بدأ الجو يتغير بسرعة مذهلة، أجاب بنظرة خبيثة من عينيه:

- تعاون مع الملحن العبقري محمد الموجي، ومما غنى له "قارئة الفنجان"، و"رسالة من تحت الماء" لنزار قباني. وتعاون مع الملحن الفذ كمال الطويل، والملحن العبقري بليغ حمدي، حيث قدّم الثنائي حليم – بليغ مع الشاعر المصري المعروف محمد حمزة أفضل الأغاني العربية من أبرزها: "زي الهوى "، "سواح"، "حاول تفتكرني"، "أي دمعة حزن لا"، و"موعود". وله أغنيات شهيرة من ألحان موسيقار الأجيال محمد عبد الوهاب مثل "أهواك"، "نبتدي منين الحكاية"، و"فاتت جنبنا".

تبسمت بحزن، وتشجيع، ليكمل أسئلته:

- أتعرف مَن جمع تراثه الغنائي؟

كعادتي أومأت بعدم المعرفة، فاستطرد يجيب بدلاً مني:

- قام صديق عبد الحليم حافظ، مجدي العمروسي، بجمع أغانيه في كتاب أطلق عليه "كراسة الحب والوطنية... السجل الكامل لكل ما غنّاه العندليب الأسمر عبد الحليم حافظ".

- أتعرف من كان صديقاً له؟

رفعتُ حاجبيّ ومنكبيّ في آن واحد إلى أعلى متعجباً أن لا أعرف، فبادر قائلاً:

- كان صديقاً له الحبيب بورقيبة، والحسن الثاني، والملك حسين.

واصل مطر أسئلته عليَّ حتى ضجرت وندمت لأنني سألته. أتلف لي هندامي، ووسّخ لي ياقة قميصي الأبيض، وتبللت بماء المطر. رأيت ضوءاً فريداً ينطق لامعاً لاصفاً مشعاً في عينيه يشبه سرب طيور عند الغروب، أكمل:

- أتعرف كم أغنية مصورة له؟

كان المطر يغسل وجهينا. سكتُّ. دموعي تغسل نفسي مثلما يغسل المطر وجهي. أجاب بنبرة لا تخلو من حنان:

- عدد الأغاني المصورة في التلفزيون يصل إلى مئة وأثنتي عشرة أغنية.

تابع يسألني وهو ممسك بخناقي، وكأني كفرت وسألته:

- أتعرف كم فيلماً سينمائياً مثّل فيه؟

أجبته لأناكفه:

- ستة عشر فيلماً سينمائياً.

لا يزال الخيط والعصفور بيدي، وقبل أن يسألني رحت أعددها له لأضيره بصوت جاهدتُ أن يكون رقيقاً:

- "لحن الوفاء" عام 1955، شاركه البطولة شادية وحسين رياض، "أيامنا الحلوة" عام 1955، مع فاتن حمامة وعمر الشريف وأحمد رمزي، "ليالي الحب" 1955، مع آمال فريد وعبد السلام النابلسي، "أيام وليالي" عام 1955، مع إيمان وأحمد رمزي ومحمود المليجي، "موعد غرام" عام 1956، مع فاتن حمامة وعماد حمدي وزهرة العلا ورشدي أباظة، "دليلة" عام 1956، مع شادية وفردوس محمد. كان أول فيلم مصري ملون بطريقة السكوب، "بنات اليوم" عام 1957، مع ماجدة وآمال فريد وأحمد رمزي، "الوسادة الخالية"، مع أحمد رمزي وزهرة العلا ولبنى عبد العزيز وعمر الحريري، منقولة عن رواية الأديب المصري إحسان عبد القدوس، "فتى أحلامي" 1957، مع منى بدر وعبد السلام النابلسي، "شارع الحب" 1958، مع صباح وعبد السلام النابلسي وحسين رياض، "حكاية حب" 1959، مع مريم فخر الدين وعبد السلام النابلسي ومحمود المليجي، "البنات والصيف، مع زيزي البدراوي وسعاد حسني، "يوم من عمري" 1961، مع زبيدة ثروت وعبد السلام النابلسي ومحمود المليجي وسهير البابلي، "الخطايا" 1962، مع عماد حمدي وحسن يوسف ونادية لطفي ومديحة يسري، "معبودة الجماهير" 1967، مع شادية وفؤاد المهندس ويوسف شعبان، "أبي فوق الشجرة" 1969 م، مع عماد حمدي وميرفت أمين ونادية لطفي وكان آخر أفلامه.

فتح عينيه الجمرتين يتطلع بوجهي، كان وجهه خالياً من أي تعبير سوى اتقاد عينيه الحانقتين. انفرجت شفتاه المزرقتان، ولكي أوغل في أغاظته أضفت:

- كما قام ببطولة المسلسل الإذاعي "أرجوك لا تفهمني بسرعة" 1955، وأدهم الشرقاوي 1946، كما ظهر في فيلمين هما "إسماعيل ياسين في البوليس الحربي"، و"قاضي الغرام".

راح ينظر إليَّ بحقد وغضب، حتى أن عينيه اتقدتا، توهجتا، اشتعلتا، فسأل قاصداً إحراجي، وقبضته أطبقت على خناقي، وكان سؤاله مثل ضوء بزغ في العتمة:

- أتعرف متى زار بغداد؟ وماذا غنّى فيها؟ وأين غنّى؟ وأين أقام؟

استمرأت لعبة أغاظته، فأجبته مؤكداً:

- نعم. أواسط الستينات، وأحيا حفلات غنائية عدة على خشبة مسرح "سينما النصر" في شارع السعدون، تصاحبه الفرقة الماسية بقيادة الموسيقار أحمد فؤاد حسن.

اغتاظ، احمرت أوداجه وانتفخت من فرط الغيظ، نظر إليّ بعينين مفتوحتين وتساءل بوحشية:

- أتعرف أسماء الأطباء الذين عالجوه في رحلة مرضه؟

غرقت حزيناً داخل لجة نفسي. كان ثمة خيط دقيق يشدني إلى الغرق في مناكفته. أجبته رغم غرقي في بحر حزني الواسع وابتسامتي لا تفارق عينيي وشفتي:

- الدكتور مصطفى قناوي، الدكتور ياسين عبد الغفار، الدكتور زكي سويدان ، الدكتور هشام عيسى، الدكتور شاكر سرور، ومن إنكلترا الدكتور تانر، الدكتورة شيلا شارلوك، الدكتور دوجر ويليامز، الدكتور رونالد ماكبث، ومن فرنسا الدكتور سارازان.

أطرق برأسه قليلاً نحو الأرض بعدما عصفت به أجوبتي. ثمّ رفع رأسه محدقاً بعينين تتقدان حقداً وغضباً، وسألني بمكر:

- أتعرف ما اسم سكرتيرته الخاصة؟

أجبته والابتسامة لا تفارق عيني وشفتي:

- سهير محمد علي.

نظر إليَّ مندهشاً، أراد مقاطعتي، فأومأت له أن يسكت، وأكملت:

- عملت سكرتيرة خاصة معه منذ عام 1972، وكانت ترافقه في المستشفيات التي رقد فيها حتى وفاته في يوم الأربعاء 30 آذار من عام 1977، في لندن عن عمر يناهز السابعة والأربعين عاماً.

أسمع موسيقى "قارئة الفنجان"، تهزني، تهز عظامي. كان ثمة خيط دقيق يشدني إليها، كان قلبي يخفق بـ"قارئة الفنجان"، كأنها بقلبي، تصاعدت دقات قلبي مع تصاعد موسيقاها، دقات قلبي ليس لها أوّل، ليس لها آخر، شعرت بالحياة، جاءت الفرصة لأقتص منه لأنه لوث ياقة قميصي، ولخنقه لي بشدة، سألته:

- أتعرف أسماء المستشفيات التي رقد فيها خارج مصر؟

أطرق متألماً، وأجاب منكسراً:

- لا . والله.

فرحت لانكساره، وابتسمت منتصراً، وأنا أجيبه:

- مستشفى ابن سينا بالرباط في المغرب، وفي إنكلترا مستشفى سان جيمس هيرست، ولندن كلينيك، فيرسنغ هوم، ومستشفى كينغز كولدج (المستشفى الذي شهد وفاته)، وسالبتريد بباريس.

كنت أجيبه بابتسامة حلوة طيبة دافئة جنوبية عذبة محرجة مني بالنفي، النفي القاطع، رغم أنني أعرف أجوبة كل أسئلته. عشت معه دقائق مثل قصة قصيرة منسية، كنت فيها أصغي إلى نبضي حيال فنان صنعه الألم. هناك أنباء أحتفظ بها لنفسي. أمس ودع الحمام الأبيض عبد الحليم حافظ يوم توفي في الأربعاء 30 آذار 1977 ، بسبب المرض في لندن. اليوم وضعت شركة محرك البحث عبر الإنترنت "غوغل" صورة العندليب على صفحتها الرئيسية وهي تحتفل بعيد ميلاده. عيون المارة تعكس صورتينا، تعكس صورتي وأنا أمد يدي اليمنى النظيفة مصافحاً أسأله بأسى وأنا أبكي روعته بصمت:

- ما اسمك؟

ترك ياقة قميصي الأبيض، راح يستبدل كاسيت شريط "قارئة الفنجان"، بواحدة أخرى، راحت مسجلته تصدح بمقدمة أغنية "حاول تفتكرني"، مد يده اليمنى المتسخة لي مصافحاً منهياً حديثنا الطويل، بعدما وضع سيجارته بفمه. المطر توقف نهائياً، حدق في عيني بعينين يسودهما الجمر، أجابني بفخر قل نظيره:

- كاكا... عبد الحليم حافظ.

الكلمات الدالة

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم