الجمعة - 26 نيسان 2024

إعلان

خريف الحياة في لبنان

محمد الحجيري
A+ A-

كيف يمكن وصف حالتنا في لبنان اليوم؟ غمامات سوداء تخيّم منسرحة في سموات البلاد المنقسمة، المسوّرة، المتحاجزة، المستسلمة منساقةً الى قدرها الأسود: أشباح السيارات المفخخة، تبادل الاتهامات، ضائقة اقتصادية، جنازات على مذبح قضايا مستعارة، تختلط بجنازات قتلى بلا قضية، جماعات خائفة تتبادل التربص والشائعات، فتلجأ الى التداوي بالتعاويذ والتنجيم والعرافة. هل بلغت الحياة خريفها في لبنان؟ هل دخلت الجماعات اللبنانية لعبة الروليت الروسية؟


يخيم الشبح الأمني، أو شبح الحرب بالسيارات المفخخة، على الربوع اللبنانية من أقصى الشمال إلى أقصى الجنوب مروراً ببيروت والبقاع والجبل. يعيش لبنان اليوم مرحلة عنوانها: "ربيع الأمن خريف الحياة". الأمن الذي نقصده لا يعني أن لبنان يخلو من الجرائم وينعم بالأمان والطمأنينة، وتخطى المناوشات والتوترات والمتاريس. فتفجيران في الضاحية الجنوبية وتفجيران في مدينة طرابلس، كانت كافية لعودة المناطق اللبنانية إلى ما يسمّى: الأمن الذاتي ولجان الأحياء واللجان الشعبية وشباب الحي والأمن الحزبي وأمن المقاومة. هكذا انتشرت العوارض الحديد والمكعّبات الخرسانية وأجهزة كشف المتفجرات، إلى جانب لغة "افتح الصندوق، لوين رايح ومين في عندك هون؟".
قبل دبيب هذه الموجة، كان لبنان يعيش نسبياً في دائرة الأسوار غير المرئية، حيث يسود نفوذ بعض الجماعات والكانتونات. ففي زمن الحرب الأهلية اللبنانية (1975 – 1990) نشأ الكثير من هذه الأسوار وخطوط التماس بين المسلمين والمسيحيين، وارتفعت شعارات "أمن المسيحي فوق كل اعتبار"، و"حرية العمل الفدائي الفلسطيني على الأراضي اللبنانية"، وصولا إلى "طريق فلسطين يمرّ في جونية". وفي زمن السلم، بعد اتفاق الطائف، لم تقدر الدولة اللبنانية أن تزيل الانقسام والأسوار بالكامل، وبدا أن لبنان يعيش "كونفيديرالية طوائف غير معلنة" في ظل الإدارة الأمنية والسياسية السورية. فبعض سائقي التاكسي من هذه الطائفة أو تلك، لم يقدموا على التجول إلا في مناطقهم، كأنهم استبقوا مشروع "اللقاء الارثوذكسي" الذي حاول البعض تسويقه في السياسة. هناك أيضاً الطبيب من تلك الجماعة لا يطبب إلا في حيّه أو مستشفى تابع لطائفته. هنالك المهندس من تلك الملّة الذي لا يعمل إلا في منطقته ومع قبيلته. ما بين هؤلاء تسميات، مثل "المثقف الشيعي" و"مستشار الزعيم السني"، وسوى ذلك من التسميات التي يمكن وضعها في خانة التقسيمات الطائفية. ومع السيارات المفخخة، والشبح الأمني في زمن الاحتراب السوري الراهن، صارت تلك الأسوار بين المناطق اللبنانية واقعية بامتياز، فتزايد الفرز والعزل والتوجس والقلق. صار على الداخل إلى بعض المناطق أن يبرز هويته ووجهة سيره على حاجز حزبي، وربما يخضع للتحقيق والإهانة، وسُيّرت دوريات حزبية في مختلف المناطق، من الجنوب إلى الجبل والبقاع.


القلعة
أما الضاحية الجنوبية فتحولت ما يشبه القلعة المحاصرة، ومعها ضرب الحصار الشأن العام اللبناني والحكومي. أنا شخصياً لم أعد أمر بسيارتي في الضاحية الجنوبية مذ أخبرني أحد أقاربي أنه اوقف في منطقة بئر العبد قبل تفجير الرويس، واقتيد إلى أحد أقبية أمن "حزب الله" وجرى التحقيق معه على مدى 17 ساعة، برغم انه كان برفقة شابين من الطائفة الشيعية، احدهما نجل مسؤول في "حزب الله". كان يكفي ان يعلن قريبي اسمه وعائلته ومكان ولادته حتى يعتبره الأمن الحزبي صيداً ثميناً، فطرح عليه أسئلة عن عائلته وأسماء اشخاص من بلدته "حتى نشف ريقي"، على ما قال. في النهاية حاول المحقق تجنيده بشكل من الأشكال. هناك الكثير من الأشخاص يوقفهم أمن "حزب الله" لمجرد ان لهم لحى تشبه اللحى السلفية، ولمجرد أنهم ينتمون إلى هذه المنطقة أو تلك. حتى بعض الشخصيات الشيعية المتدينة لم تنج من التوقيفات في بعلبك. كذلك لم ينج بعض حلفاء "حزب الله" من هذه العراضة الأمنية. حتى البعثات الديبلوماسية العربية أوقف بعض اعضائها، وتم التحقيق معهم بما يتنافى مع المواثيق الدولية.
ما يفعله "حزب الله" اليوم، إنما يفعله تحت شعار ضمني غير معلن: "أمن المجتمع الشيعي فوق كلّ اعتبار"، كأنه يستعيد شعاراً رفعته "القوات اللبنانية" في خضمّ الحرب الأهلية. حتى الآن لم يستوعب "حزب الله" ما حصل في منطقة الرويس، ومن خلال شعارات من أمثال "إرادة لا تنكسر" و"انها الضاحية أيها الحمقى" – وهذه رفعت في الضاحية بعد التفجيرات - يمكن المرء ان يدرك مآل تفكير "حزب الله" الذي يتصرف على طريقة السوبرمان، محوّلاً سكان مناطقه جمهوراً، محتقناً غاضباً، تسكره القوة والأمن الذاتي.


الأمن الذاتي
من دون سيارات مفخخة وعنتريات خطابية تتهم "التكفيريين" و"الخونة" جزافاً، كان لبنان يعيش مرحلة خريف الحياة العامة، السياسية والاقتصادية والسياحية، وسواها من المجالات. كان يكفي أن يحصل تفجيران على إيقاع مشاركة "حزب الله" في الحرب السورية، لينكشف الوضع برمته ويحدث الهلع النفسي. انتشرت المكعّبات الخرسانية حول المساجد ودور العبادة وأقفلت الطرق إلى الأسواق التجارية والشعبية في وجه السيارات، وحاول مسلحون إقامة حواجز في طرابلس تماثلاً مع مسلحي الضاحية الجنوبية ونكاية بهم، فاشتبكوا مع الجيش في حي المنكوبين. أما في الأحياء البيروتية فقد وزِّعت الشرائط الصفر من الطريق الجديدة إلى وطى المصيطبة، موقَّعة باسم "اللجان"، التي أخذت تطلب وضع تعريف على كل سيارة. ووقف رجال الأجهزة الأمنية الرسمية، من فهود ودرك، يفشتون عند مداخل الأحياء الشعبية والمساجد في منطقة مثل صيدا، واشتكى باعة الخضر والفاكهة من منع مرور السيارات في الأسواق. لم تتردد بعض أجهزة الجماعات الأهلية والحزبية في تطييف الأجهزة الأمنية من خلال خطب وتصريحات ومواقف. كما ان بعض الأجهزة الأمنية نفسها أمعنت في محاولة تغليب العراضة الأمنية على الفعل والنتائج، وبدا بعضها الآخر راضياً ومقتنعاً بالتطييف، وكثرت الشائعات والأوهام والأخبار عن وجود سيارات مفخخة هنا أو هناك. ثم راجت شائعة تحذّر من الرد على رقم خليوي محدد لأنه مخصص لتفجير السيارات المفخخة. بات سهلاً إطلاق التصريحات والتحليلات، في وقت وصلت السياسة كلها في لبنان إلى حائط مسدود، كأن هذا البلد باتت تنبغي إعادة تركيبه أو صوغه من جديد.


العرافة والتنجيم
في هذا المناخ الأمني المحموم، أطلّت العرافة ليلى عبد اللطيف بكمية من التوقعات الفلكية القاتمة والبائسة والكالحة، فسرت في أذهان بعض المشاهدين صور المآتم والجنازات والقتل والاغتيالات، كأن غمامة سوداء انسرحت فوق المدن والشوارع. هذا فيما يشيّع "حزب الله" جنازات قتلاه في الحرب السورية. لا شك في أن الشاشة التي فتحت ستوديواتها التلفزيونية للعرّافة تعلم أنها في هذه المرحلة المتوترة تقطف ثمارها الذهبية شعبياً واعلانياً. فحيث تحضر الأزمات الكبرى والصغرى يحضر التنجيم ويصبح مستساغاً وله جمهوره الذي يرفض منطق العرافة لكنه يتابعه ويتداوله على صفحات الـ"فايسبوك"، مع العلم أن الكثير من السياسيين والمحللين اللبنانيين صاروا مثل العرّافات في برامج الـ"توك شو" التلفزيونية. فما إن يحلّ أحدهم ضيفاً على مثل هذه البرامج، حتى تسأله المذيعة: "شو توقعاتك". على أن العرَّافة التي سمّت برنامجها "تاريخ يشهد"، وتريد اصدار كتاب توقعات لمئة سنة مقبلة، تحولت توقعاتها في اللحظة السوداء والمتوترة فرصة للتجارة استغلتها شركات الاتصالات التي لم تتردد في توجيه رسالة الكترونية هاتفية تقول: "حداد عام واقفال ثلاثة أيام، للمعرفة أكثر على الرقم...".


نعيّ السياحة
تحوّلت ليلى عبد اللطيف مداراً لسخرية "فايسبوكية". لكن وزارة السياحة شاركت في هذه الموجة بإطلاقها كليباً دعائياً تلفزيونياً للترويج للسياحة، تحت عنوان "بيقولوا تجنّبوا لبنان، ليش في أحلى من لبنان؟". يظهر في الكليب، البحر والجبل والطعام اللبناني وأماكن السهر، حيث يتحدّث الفنانان عاصي الحلاني ويارا عن شمس لبنان الجميلة وعن الأكل اللبناني اللذيذ وعن جمال السهر والديموقراطية، فيختمان قائلَين: "بيقولوا تجنّبوا لبنان، ليش في أحلى من لبنان؟". بدا الاعلان كوميديا سوداء، إلى جانب مشاهد التفجيرات في الضاحية وطرابلس. فالنرجسية السياحية اللبنانية سقطت قبل التفجيرات بزمن طويل. الادعاء أن هذا البلد رائد في السياحة سقط منذ حرب تموز 2006، لم تعد القضية مجرد مناكفات سياسية وصراعات لامرئية هنا وهناك.
منذ ما قبل التفجيرات، كانت الدول الخليجية منعت مواطنيها من التوجه إلى لبنان، وخصوصاً مع تولي الحكومة الميقاتية مهامها. بعضهم فسّر الأمر بأسباب سياسة لمحاصرة الحكومة التي يسيطر عليها "حزب الله". وجاءت الحرب السورية لتزيد الطين بلّة، وخصوصاً بعد مشاركة "حزب الله فيها. أصبح المغتربون الشيعة واللبنانيون في بعض البلدان الخليجية تحت أعين المراقبة والتهديد بالطرد، بسبب نشاطات "حزب الله" على أكثر من صعيد. ووضعت أوروبا الجناح العسكري لهذا الحزب على لائحة الإرهاب، ودفعت بعض الشركات المالية ثمن انتماء أصحابها الى الطائفة الشيعية أو مناطق نفوذ "حزب الله"، اذ وضعتها الإدارة الاميركية على لائحة الشركات التي تبيّض الأموال.
على أن "الحرب بالسيارات المفخخة"، كانت القشة التي قصمت ظهر البعير في لبنان. فوزير السياحة اللبناني فادي عبود نعى السياحة وعبّر عن يأسه بعد تفجير الرويس. روّاد شارع الحمراء والشوارع الأخرى في بيروت خفت حضورهم وفضّل بعضهم البقاء في المنازل منصاعين لوطأة "الخبر العاجل". المقاهي صارت تئنّ من وطأة غياب الزبائن، وأخذ عمّالها يترقبون الشائعات والقيل والقال. هكذا راحت الطاولات والكراسي يتحاور بعضها مع بعضها الآخر، وسط الخيبة والخواء. بعض المسرحيات الثقافية تعطلت وأصيب أصحابها بخيبة أمل. الصليب الأحمر اللبناني الذي كان يحضّر لحفلة بعنوان "غنّوا للسلام"، بدا الشبح الحربي أقوى من سلامه، فألغى الحفلة واستبدلها بمسيرة شموع في وسط بيروت، بعد حصول تفجير طرابلس. قبل هذا كله، كانت إدارة مهرجانات بعلبك قد مُنعت من إقامة حفلاتها على مدرج مدينة الشمس لأسباب حزبية وحربية، فلجأت إدارة المهرجانات إلى نقل وقائع حفلاتها إلى سد البوشرية، وخسرت بعلبك مهرجاناتها العتيدة، وخسر أبناء بعلبك موسماً سياحياً، في وقت كانت شهدت المدينة عشرات الجنازات لشبّان قتلوا في المعارك السورية. هذا عدا ظاهرة الخوّات التي برزت في المدينة من دون أن ننسى الخطف والفدية.


ثقافة التربص
الأمر الأول الذي يمكن استنباطه من هذا كله، من الأمن الذاتي والحزبي، هو هشاشة بنيان الدولة اللبنانية. فالحواجز الحزبية والأهلية تظهر على مرأى من القوى الأمنية اللبنانية، وبعلمها، وهي لا تحرّك ساكناً. الأمن الذاتي والحزبي هو فعل تحدٍّ للشأن العام، بل ازدراء لفضاء الدولة، وربما محاولة لتقويضها لمصلحة هذا الحزب أو ذاك الكانتون. المعضلة الكبرى أن "ثقافة التربص" باتت حاضرة بقوة في النسيج الاجتماعي اللبناني. لم تبلغ هذا المستوى من قبل. ربما بلغت ذروتها مع توزيع البقلاوة المسمومة أو المغمسة بالدم. فلغة الشماتة وممارساتها "أشد من القتل"، على ما يقول صديقنا بومدين الساحلي في جرود الهرمل.
كنا نقول سابقا خذوا أفعالهم من صغارهم، اليوم نأخذ أفعالهم من "فايسبوكاتهم"، فحتى مجزرة الكيميائي في الغوطة الشرقية، أطلقت في الـ"فايسبوك" فحيحاً، فكتب البعض أن الضحايا "فطايس"، كلام الحقد اللبناني في الكواليس كان أقوى من السيارات المفخخة. لكن الغريب ان الرجل الطرابلسي التراجيدي أبو عشير الذي فقد ثلاثة من أحفاده في تفجيرات المدينة، كان في تصريحاته أقوى من المأساة، إذ تعالى على الجروح، وعتب على الإعلام والدولة والأحزاب، متحدثاً عن حياته وأحفاده من دون انفعال. كان في كلامه، نموذجاً صارخاً للإنسان الذي يحتاجه لبنان في هذه المرحلة التي بدأت تفرز بعض الكتبة والكاتبين الذين يدعون الى سفك الدماء والقتل لكل من يخالف رأيهم. حتى بعض الشعراء لم يترددوا في الإنضمام إلى جوقة الاتجار بالخوف والدم.

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم