الجمعة - 26 نيسان 2024

إعلان

لبنان "الساحة" و"الملعب"

أنطوان الخوري طوق
لبنان "الساحة" و"الملعب"
لبنان "الساحة" و"الملعب"
A+ A-

ربما لبنان هو البلد الوحيد في العالم الذي تُختصر شؤونه الوطنية وحياته السياسية أو الاجتماعية أو الاقتصادية أو الثقافية بكلمة "ساحة". فيُقال "الساحة اللبنانية"، بينما لا نسمع مثلاً بـ"الساحة الاميركية" أو "الساحة الفرنسية" أو السعودية أو الايرانية.... 

وربما لبنان هو البلد الوحيد - على ما أظنّ - الذي تطلق على حياته البرلمانية كلمة "لعبة"، فيُقال "اللعبة البرلمانية"، أو "اللعبة السياسية"، أو "اللعبة الديموقراطية"، وما من أمر ثابت في هذه اللعبة سوى اللاعبين... الظاهرين.

واللعبة خاضعة كلياً لأمزجة اللاعبين الظاهرين ومدى إرتباطاتهم بمنظّمي المباريات خارج الملاعب. يبدلون الفرق والمواقع، فيضيع جمهور المتفرجين، فلا يعودون يعرفون الهاوي من المحترف، والحليف من الخصم، والعدو من الصديق.

أما الجمهور في مقاعد المتفرجين، فيصفق لهذا وذاك، ويصرخ عند تسديد أي هدف، وفي نهاية كل مباراة تمتلئ الساحات والملاعب والمدارج بالبقايا الى درجة تحاصر النفايات الشوارع وتقتحم أبواب المنازل.

هكذا أضحت حياتنا الوطنية وأمورنا المعيشية موزّعة بين ساحة وملعب، وفي الساحات والملاعب تحتك الاجساد بعضها ببعض، وتتزاحم المناكب، ويبدأ "التدفيش" وتكسير الكراسي وزجاجات المياه، وتشتبك الأيدي، ويعلو الصراخ على الشاشات العملاقة، ويمتلئ الأثير ضجيجاً وزعيقاً، وغالباً ما تتحول "الماتشات" الى ألعاب دمويّة.

اللاعبون الظاهرون في الملعب اللبناني يتلهّون كثيراً بتمرير الكرة بعضهم لبعض من دون أن يُستبعد "الغشّاشون"، أو الذين يتعمّدون "الفولات" المؤذية. فاللاعبون هؤلاء، هم هم أيام العسر والضيق وأيام اليسر والاسترخاء، ويتوزع المخبرون بين جماهير المتفرجين لرصد أيدي المشجعين والمصفقين. أما المولجون التحكيم فهم غالباً منحازون، وإذا صدف أن أحد اللاعبين تعب، أو أُصيب بضرر جسدي، سرعان ما يحلّ مكانه الابن أو الشقيقة أو الزوجة أو الشقيق أو أحد الانسباء أو أحد مموّلي الالعاب. ويستعين كل فريق بلاعبين أجانب من مختلف الأجناس والأعراق، وغالباً ما يُضحي هؤلاء أسياد اللعبة، فيعود لهم القرار النهائي في إستمرار اللعب أو إيقافه، وفتح "الساحة" و"الملعب" وإقفالهما. وغالباً ما يشتبك جمهور المتفرجين من دون أن يفقهوا الأسباب. فهم لا يفهمون أسرار اللعبة وتقنيات اللعب.

هكذا تمضي أعمارنا وتنقضي أيامنا. ففي كل موسم "لعبة"؛ من "لعبة" قانون الانتخاب التي استمرت حوالى عشرين عاماً بين تمريرات ومماطلة وتأجيل وإعادة تشكيل فرق وتسجيل أهداف، الى "لعبة" البطاقة "البيرومترية" وكلفتها ومهلة إنجازها وعمولاتها، فإلى "لعبة" الانتخابات المبكرة ومدى جدّيتها. ذلك كله يجري عند استنفاد المهل وعلى حافة الهاوية.

ومن "لعبة" قانون السلسلة التي استمرت حوالى خمس وسنوات بين مماطلة وتأجيل وقانون الضرائب المسلوق والمرتجل واللادستوري والعائد مشكوراً الى ملاعب الوزراء والنواب، الى "لعبة" قانون الموازنة وقطع الحساب، وكلّه ممغوط وممغنط. ومن "لعبة" خطوط التوتر العالي المقتحمة غرف النوم مع تغيير اللاعبين، الى "لعبة" البواخر والمعامل على طريقة المسلسلات التركية التي تغزو شاشاتنا في هذه الازمنة، الى "لعبة" دفاتر الشروط بين مجلس وإدارة، وقد انقضى على اللعب على خطوط التوتر العالي و"الواطي" نحو أربعين عاماً بكلفة ثلاثين مليار دولار من دون أن يصاب أحد من اللاعبين بأي ضرر. كل الأذى يقع في صفوف المتفرجين.

أخيراً وليس آخراً، بدأت "لعبة" التحقيق في الجرود الوعرة والخطرة، وكأنّ "ملاعب" المدن و"ساحاتها" ضاقت باللاعبين، وهذه "اللعبة" الجديدة شديدة الكلفة والخطورة وكلفتها دموع ودماء. فاللاعبون التقليديون يتوجسون وبحذر شديد من طرف جديد جدّي قد يضع حداً لهذه الالعاب.

ومن "لعبة" استدعاء سوريا إلى الدبكة في "الساحة اللبنانية" بوجود مئات الآلاف لا بل الملايين من القادمين الجدد، الى "لعبة" زيارات سوريا على طريقة "عروستي ضايعة"، وهنا اللاعبون موزعون بين لاعب على مسؤوليته الشخصية ولاعب بصفة رسمية وآخر مستقوٍ بفريق من الجمهور، فإلى معترض بخفر، يجري كل ذلك وصفّارة الحَكَم صامتة.

وفي "لعبة" من يجرؤ أو من يقول الحقيقة tu oses ou tu dis la verité، يتجرأ الكل على الممنوعات والمحرّمات، والكل يحابي ويخاف قول الحقيقة.

تُرى، متى تنتهي هذه الالعاب البهلوانية ومتى يقفل هذا السيرك؟ ومتى يتعب اللاعبون ويتقاعدون؟ ومتى يتم تقصير المهل ويحين وقت تبديل الفرق؟ ومتى "الساحة" و"الملعب" يُقفَلان؟ ومتى نصبح على وطن؟ ومتى يقرر الجمهور الانتقال من مقاعد المشجعين والمتفرجين؟ ألم يملّ هذا الجمهور التفرّج على اللعب بلقمته ومصيره وأعصابه؟ ألا يخشى اللاعبون اختراق "ساحاتهم" واحتراقها، وهم مقيمون على فيالق الزلازل؟

لعلّ ما أقدم عليه المجلس الدستوري بجرأة وشفافية من إبطال لقانون "اللعب" بالضرائب والموازنة وقطع الحساب، قد يشكل بارقة أمل وأول الغيث في وضع حدٍ لهذه المهزلة والارتجال وسلق القرارات التي تتعلق بحياة الشعب اللبناني ومستقبل أبنائه وبناته.



حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم