الجمعة - 26 نيسان 2024

إعلان

الوطن المؤجل

المصدر: "النهار"
أنطوان الخوري طوق
الوطن المؤجل
الوطن المؤجل
A+ A-

"مَن سلبك كل شيء/ لن يعطيك أيّ شيء/ ولو أعطاك أهانك" (محمود درويش)


تتصدّر الحياة السياسية في لبنان، مقولة غريبة وفريدة من نوعها ألا وهي إتفاق أهل الحكم ضمن التسوية القائمة على تأجيل الخلافات السياسية وتأجيل الغوص في القضايا الوطنية الكبرى بإسم الانكباب على الاقتصاد والهموم المعيشية والحياتية للبنانيين، وذلك في غمرة الفوضى الإقليمية والمحلية، وفي ظلّ تأكل الدولة اللبنانية ومؤسساتها، وفي سياق الحديث عن رسم خرائط جديدة للمنطقة.

الغرابة في هذه المقولة، هي هذا الفصل المصطنع بين الاقتصاد والسياسة بمعناها النبيل، أيّ كل ما يتعلق بمستقبل لبنان واللبنانيين. كأنّ هناك من يقول: خذوا ما شئتم من نواب ووزراء ورئاسات وسفراء من داخل الملاك أو من خارجه، لا فرق. خذوا أيضاً ما شئتم من وظائف وتعيينات حزبية من مختلف الفئات، لكن ابتعدوا عن الخوض في المعضلات الوطنية الكبرى. تمتعوا بالتنافس والتطاحن على الكراسي والمناصب والمواقع وبالسطو على المال العام، فالمهم ألاّ تقتربوا من القضايا المصيرية التي تطال جوهر لبنان ودوره ومعناه والأسس التي قام عليها.

هذه القضايا مؤجلة وليست من إختصاصكم.

"سافروا وشمّوا الهوا"، ولو على حساب الخزينة، ولا تخشوا هدراً أو ديناً عاماً قد قارب المئة مليار دولار، وتمتعوا بالإقامة في الخارج، فلكم في كل بلاد حساب مصرفي وبيت وشركة ومطعم ونادٍ...

خذوا ما شئتم من مقالع وكسارات ومرامل وأملاك بحريّة ونهريّة، واملأوا جيوبكم وارضوا أزلامكم في المواسم الانتخابية، ولا تشغلنّكم أيّ قضية. انصرفوا الى اللهو والسمر. زوِّجوا أولادكم وأقيموا لهم الأعراس الأسطورية وتصدّروا حلقات الدبكة والرقص. دعوا زوجاتكم وأنسباءكم يؤسسون الجمعيات غير الحكومية ويشفطون كل قرش أو هبة تدخل البلاد. أقيموا المهرجانات على طول الخريطة اللبنانية وعرضها. تمتعوا قدر ما تشاؤون، فالمهم ألّا تطالبوا بأيّ دور في تقرير مصائر شعبكم. ولِمَ العجلة. إنتظروا الى أن يهدأ الإقليم، وإنتظروا نتائج الانتخابات في كل أنحاء الأرض والتغييرات التي قد تحملها، فأنتم معتادون على التمويل الخارجي والتبعية للخارج، فلماذا تتعبون أنفسكم بحلحلة العقد. خذوا ما شئتم من إدارات المجالس والمصارف، ولكم التلفزيونات والجرائد والمواقع والجيوش الالكترونية، فتمتعوا ولا تشغلوا رؤوسكم وإقضوا على كل صوت مستقل و"خبصّوا" ما شئتم، فـ"التخبيص" هو سيّد الموقف، وأنتم البارعون في استغبائنا. ردِّدوا الاناشيد الحماسيّة التي تثير الجماهير، وثرثِروا ما شئتم على الشاشات. فأنتم قد تعودتم على بيع جماهيركم قضايا ورهانات خاسرة وملتبسة ووعوداً معسولة وشعارات رنّانة.

لا تهتموا لمحاسبة أو مساءلة، فقد عودتم جماهير طوائفكم وأحزابكم ومذاهبكم على الرضوخ والخنوع فأضحوا طيّعين يؤمنون بكل ما تقولون وتفعلون ويعصمونكم من الخطأ، لأن في أدراجكم مفاتيح الحقائق المطلقة. ولا تخشوهم إذا غيّرتم مواقفكم وخطبكم، فهم معكم في السرّاء والضرّاء، ولو على حساب أعمارهم وأعمار أولادهم .

القضايا الخلافية مؤجلة. اعقدوا ما شئتم من تحالفات مع الأضداد والخصوم، فأنتم قد اكتشفتم محاسن خصومكم متأخرين، ولعلكم تندمون على تقصيركم في اكتشاف مواهبهم، فلو اكتشفتموها من قبل لكنتم وفرتم الكثير من العذابات والآلام. أنتم اليوم في عزّ مواسم الحبّ والغرام، لكن أخفوا خناجركم في طيّات أثوابكم، إذ قد تنقضي مواسم الوّد فأنتم قد تحتاجونها في إلغاء بعضكم بعضاً، أو قد تستخدمونها في ذبح المنتقدين والمتمردين الذين يصعب عليهم التسبيح بحمدكم وشكركم. كما قد تحتاجونها في نصب الكمائن بعضكم لبعض، إذا شبّ نزاع حول المغانم والحصص، كما قد تحتاجونها في متاحف الكراهية والهجاء وتعرضونها مع كل "التويترات" و"الفايسبوكات" و"اللايكات" و"الكومنتات"، وهذه أسلحة الجيوش الإلكترونية التابعة لكم.

لا تخافوا التأجيل. فمن تبقّى من رعاياكم المقيمين بعدما شرّدتم شبابهم، قد تعودوا التسرّع والإرتجال والمناورات اللفظية ونقض العهود والوعود عند مقاربة همومهم المعيشية التي تقولون إنكم منكبّون على معالجتها والتي بإسمها ربطتم النزاع وأجّلتم البحث في القضايا الوطنية الشائكة.

لقد أجّلتم معالجة همّ الكهرباء منذ 1975 الى اليوم، إذ وعدتم بالتغذيّة 24/24 وكنتم تعترفون أنّ هذا التأجيل قد كلّف الخزينة 30 مليار دولار أميركي كافية لزرع الخريطة اللبنانية معامل كهرباء وإنتاج طاقة. الأنكى من ذلك كله، شراؤكم الكهرباء من سوريا الغارقة في دمائها، بينما أنتم غارقون في وحول دفاتر الشروط .

ألا تخجلون؟!

ألَم تؤجلوا معالجة أزمة النفايات، إذ بفضلكم تحولت المدن والقرى والشواطئ والجبال والاودية والانهار الى مطامر عشوائية تجلب الأوبئة والموت.

ارحموا صحة جماهيركم وأولادكم.

ألَم تؤجلوا تصحيح الاجور بدءاً من تسعينات القرن الماضي الى اليوم؟

ألَم تعدوهم بسلسلة رتب ورواتب أغرقتموها بالضرائب العشوائية، وها أنتم تعيدون دراسة القوانين التي أقررتموها بتسرّع وإرتجال تحت عنوان سدّ الثغر.

لقد قَبِلَ مواطنوكم بتأجيل البحث في القضايا المصيرية فلماذا "التخبيص" عند مقاربة لقمة عيشهم؟

من مآثركم المعيبة، أنّكم تطالبون بتفريغ النظام التقاعدي من مضمونه، وفي الوقت نفسه ترفعون بدلات تقاعدكم الأبدي، وكلكم من أصحاب الثروات. المؤسف أنّكم تتعاملون مع المتقاعدين بخفّة واستعلاء وجهل فاضح لحقوق الناس الاساسية.

ألَم تؤجلوا الانتخابات النيابية وتمدّدوا الولاية ثلاث مرات متتالية؟ ألَم تؤجلوا وضع قانون إنتخابي منذ سنة 2005 ثمّ أقررتموه مفصلاً على قياس مصالحكم؟ ما يثير العجب طلبكم تعديله ليلة إقراره، وهذا هو "التخبيص" بحدّ ذاته!

ألَم تؤجلوا معالجة أزمة السير والنقل العام بحيث حوّلتم لبنان الى مرأب كبير وأضحى التنقل على الطرق مشروع انتحار يوميا؟

وفي سياق إهتمامكم بأمورنا الحياتية، ألا تعتبرون تصريف الانتاج الزراعي ساحلاً وجرداً وحماية الانتاج الوطني همّاً من هموم الناس المعيشية، ولا سيّما أنّ الارياف خلت من سكانها لتعود أحزمة البؤس تلفّ المدن؟

ألَم تَعِدوا بسلطة قضائية مستقلّة وبعدم التدخل في عمل المحاكم وبالشفافية؟ هذا كبيرٌ من القضاة يصرّح علناً قبل أيام بأنّه منذ 1920 حتى اليوم لم يشهد هذه النسبة من الفساد وتقاضي العمولات.

ألَم تؤجلوا تعزيز التعليم الرسميّ والجامعيّ الوطنّي؟

قديماً كان الفاسدون يتحركون في السر والخفاء، أمّا اليوم فالصفقات تتمّ علناً في وضح النهار. وهذه ذروة الانحطاط.

كيف تفسرون ما أعلنه وزير الاقتصاد منذ أيام بأنّ قانوني السلسلة والضرائب قد وضِعا من دون خطة إقتصادية؟

ألم تؤجلوا وضع خططٍ لمعالجة أزمة اللاجئين والنازحين؟

نحن نعيش في وطنٍ معلّق ومؤجّل، مع خوف كبير من الغد الآتي، ومن نجا منا في زمن الحرب، ها أنتم تنقضّون عليه في زمن السلم.

بفضل سياساتكم المرتجلة أضحت بلادنا مخيماً كبيراً ومحطة سفر وإنتظار ترمي بأبنائها في المنافي البعيدة.

أجِّلوا ما شئتم.


حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم