الجمعة - 26 نيسان 2024

إعلان

قلقٌ لاواعٍ

بلال الحشيمي
قلقٌ لاواعٍ
قلقٌ لاواعٍ
A+ A-

الوجوم بدا على وجهه، لماذا اهتزّ لهذه الحادثة؟ لا يدري، ربّما لأن عقله الباطني يخبره بأن ما أصاب جاره قد يصيبه في أي لحظة. لديه رغبة شديدة بمواساة ذلك الجار، بالوقوف إلى جانبه، بإسماعه بعض الكلمات التي قد تخفّف من وطأة المصيبة، هو يودّ لو يستطيع أن يصرخ ملء صوته ويقول: "يا جار، معليش، كل مصيبة بتبدا كبيرة وبترجع بتصغر". بالنسبة إليه هي مصيبة، فلو أن سيارته هي التي سُرقت بدل سيارة جاره، لكان صوته ارتفع أكثر من ارتفاع صراخ الجار المحزون، لكانت الشتائم والمسبات فاقت تلك التي أطلقها جاره، فهذه السيارة هي وسيلته الوحيدة للانتقال من بيته في الجبل إلى مركز عمله في بيروت. 

بيروت التي غادرها بدون إرادة منه بعد أن اعتزم الزواج، فهو كمعظم شباب العاصمة عندما قرر أن "يُكمل نصف دينه" لم يكن أمامه سوى التخلّي عن هذا الترف، ترف أن يكون من سكان العاصمة، وأن يبدأ حياته كما الغالبية من أبناء جيله في ضاحية جبليّة.

هو يحب تلك الضاحية الجبلية، ثلاث عشرة سنة مضت على انتقاله، وهو اعتاد كل شي.

ولكن هذه الليلة هي ليلته الأولى في شارع جديد في الضاحية الجبلية نفسها، فبعدما يئس من محاولات العودة إلى عاصمته، رضي بالواقع ومضى في تحسين أوضاع أسرته المعيشية والانتقال إلى منزل جديد أرحب بقليل من البيت القديم، والأهم أنه في الطبقة الأولى وليس في الرابعة كما هو الحال في البيت القديم، فلا همّ الكهرباء يُقلقه ولا عبء صعود الستين درجة بعد يوم طويل من العمل يزعجه. يتذكّر بابتسامة كلام صديقه مدرّب الرياضة في النادي المجاور "أفضّل ممارسة ساعات طويلة من التمارين الرياضية في النادي على صعود ذلك الدرج"، فليس هو الوحيد الذي يتذمر من صعود الدرج، ها هو الرياضيّ الاحترافي يعاني المعاناة ذاتها.

أمله وأمل أسرته في ذلك البيت كبير، ولكن حادثة الجار أقلقته، "لم أبتعد كثيراً، فهل يمكن للأمن أن يسوء أو يتحسّن من شارع إلى شارع؟". أقفل بوابة التساؤلات، ودخل من الشرفة وتوجّه إلى غرفة الجلوس يسامر أهله ويضحك معهم وكأن شيئاً لم يكن.

مضت الأيام، واكتشف في الشارع الجديد ما هو أفظع من حادثة الجار، اكتشف أن جودة الماء هنا أقل، وأن لا إمدادت للهواتف الثابتة ولا تغطية للهواتف النقّالة وأن سبيله الوحيد للبقاء على اتصال مع بقية العالم هو في الاشتراك بالشبكة العنكبوتية عبر شركة خاصة، في البيت القديم كان يسدّد فاتورة اشتراك الكهرباء في بداية كل شهر، أمّا هنا فهو يُسدد فاتورتين، واحدة لاشتراك الكهرباء وأخرى لاشتراك الانترنت. لكنّه لم يتأفّف يوماً، ليس لأنه وليّ من أولياء الله، ولكن لأنه وضع كل أمله في ذلك البيت الجديد، ولا يريد خيبة جديدة.

هو يتجاهل كل هذه المشاكل والعوائق، يغادر بيته مبتسماً في الصباح ويأتيه مبتسماً في المساء، يدّعي أن كل شيء بخير.

ولكن ما الذي حدث صباح هذا اليوم؟ صباح اليوم السابع بعد الشهر الخامس على انتقاله إلى هذا البيت الجديد. تخطّى درجتي المدخل، ألقى تحيّة الصباح على ناطور البناية المسكين، وتابع طريقه بضع خطوات حيث يركن سيارته مقابل البناية كل يوم. نظر إلى المكان فلم يجد السيارة! حملق في المكان ولكنه أيضاً لم يجد السيارة، استدار يميناً ويساراً ليتأكد أنه صاحٍ وأن ما يحدث له الآن ليس كابوساً سيستفيق منه لاحقاً. أثناء استدارته لمح الناطور فناداه فوراً "محمد... وين سيارتي؟"، فجاءه الردّ صاعقاً "ما بعرف أستاذ!! "، أمسك رأسه بين يديه وحاول السيطرة على دفق الأفكار التي اجتاحت خاطره، لقد حدث فعلاً، حدث ما كنتُ أخشاه، ما هي الخطوة الأولى؟ الاتصال بالشرطة؟ أم الاتصال بصديق له معارف؟ لا ربما البحث في المنطقة فقد أجدها؟ لا، لا يمكن ذلك، فأنا أركنها في المكان عينه منذ خمسة شهور. اشتبكت الأفكار وتضاربت التساؤلات وتسارعت دقات قلبه بشكل مميت، وشعر بنفسه تهوي أرضاً، وللحظة أحسّ بأنه فاقد توازنه، "أستاذ.. أستاذ" أعاده صوته الناطور "هل يمكن أن تكون قد تركتها في بيروت واستخدمت سيارة أجرة؟؟". فجأة زال كل الضباب وعادت خلايا دماغه إلى أماكنها، فعلاً لقد عاد مساء أمس بسيارة أجرة، فقد كان متعباً من العمل لدرجة منعته من القيادة.

اعتذر من الناطور لما سببه له من قلق ولو لبضع لحظات ومضى نحو الشارع العام باغياً سيارة أجرة تنقله إلى بيروت.

ولكن السؤال الذي ما برح يطرق جدران رأسه منذ ذلك الصباح: "ألهذا الحد يسيطر القلق على لاوعيه؟، وأي بلد هو هذا الذي يجعل مواطنيه يعيشون في قلق دائم، إن لم يكن في وعيهم ففي لاوعيهم"؟!


الكلمات الدالة

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم