السبت - 27 نيسان 2024

إعلان

المصلحة الوطنيّة الضائعة

المصدر: "النهار"
الأب صلاح أبوجوده اليسوعي -أستاذ في جامعة القديس يوسف
المصلحة الوطنيّة الضائعة
المصلحة الوطنيّة الضائعة
A+ A-

هل تقضي المصلحة الوطنية حاليًا التطبيعَ مع النظام السوري والتنسيق بين الجيشَين اللبناني والسوري في ظل عمليّات الجيش اللبناني لتحرير الجرود؟ وهل المصلحة الوطنية تقضي بأن يقوم الجيش اللبناني الآن بهذه العملية؟ وهل يحتاج إلى سندٍ من مقاتلي حزب الله أم لا؟ وبكلام آخر، هل يُفرض التوقيتُ على الجيش وبالتالي على السلطة السياسية أم أنه يُحدَّد من قبلهما؟ تُثار هذه الأسئلة في سياق السجال الذي بدأ مع المعارك التي خاضها مقاتلو حزب الله في جرود عرسال. فهل ما حصل في تلك الجرود ويجري امتداد لتورّط حزب الله في الحرب السورية بقرار إيراني، ومردوده بالتالي إقليمي قبل أن يكون محليًّا، تبعًا لما يرتأيه بعضهم؟ أم أنّ منتقدي معارك حزب الله في الجرود يخفون وراء شعارات المحافظة على هيبة الدولة وكرامتها وواجبات قواتها الأمنية والعسكرية، خيبةَ أمل سعودية من تقدم "محور المقاومة" أو "الممانعة"، كما يرى بعضهم الآخر؟ في الحالتَين، تتجاوز دوافعُ الحدث ونتائجه الإطار اللبناني الصرف، أي مجرد إقصاء الخطر الإرهابي عن قسم من الحدود اللبنانية السورية، وهذه قراءة إيجابية تسعى فئة ثالثة وسطية لتروّجها، مع تحاشي الكلام على أبعاد الحدث الإقليمية. ولكنها قراءة بلا شك مبتورة. لذا، تكتسب الأسئلة أعلاه خطورة وحراجة شديدتين.

بصرف النظر عن الحسابات الانتخابية التي تحث بعض القيادات المحلية على توظيف هذه الأسئلة في خطاباتها، لا يمكن تجاهل خلفية المشهد الإقليمية، وتحديدًا الصراع السني-الشيعي مع تقاطعاته الدولية (حالة الشد بين موسكو وواشنطن، والعلاقات المتأزمة بين إيران والولايات المتحدة الأميركية، وأزمة العلاقات بقطر)، الذي يطرح إشكالية المصلحة الوطنية بحدّة: ما هو الأفضل للبنان إزاء هذا الصراع؟ تسلك التسويات التقليدية أسلوب التوازن الدقيق بين الأفرقاء المحليين الذين يمثلون القوى الإقليمية المتصارعة، بحيث تخرج البلاد من المأزق بأقل ضرر ممكن. ومن الثابت أن هذه الطريقة تبقى بعيدة كل البعد عن مفهوم سليم للمصلحة الوطنية. ومع هذا، لن يكون للمأزق الحالي من مخرج إلا تسوية من هذا القبيل. غير أن هذا الواقع المرير لا يمنع من التفكير في مقاربة موضوعية للمصلحة الوطنية. ويمكن في هذا السياق منهجيًا النظر أولاً إلى طبيعة الصراع الإقليمي ومتغيراته، قبل اعتبار المسألة محليًا.

تعود بدايات الصراع إلى الثورة الإيرانيّة العام 1979 التي اكتسبت في بدايتها صفة إسلامية بامتياز، الأمر الذي أثار حفيظة السعودية وبعض الأنظمة السنية المحافظة الأخرى، لا سيما وأن الثورة بعد نجاحها أصبحت مصدر إلهامٍ لحركات إسلامية سنية مناهضة الأنظمةَ الحاكمة في غالبية الدول العربية، قبل أن يتراجع هذا الدور بسبب الصفة الشيعية الغالبة على نهج الثورة، وبسبب الحرب الإيرانية-العراقية التي اندلعت العام 1980. غير أنّ شارل ثيبوه (Ch. Thépaut, Le monde arabe en morceaux, 2017) يرى عن حق ضرورة النظر إلى الصراع السني-الشيعي من زاوية غير عقائدية، من دون نفي هذا البُعد كليًّا. ذلك أنّ تغذية المخيلة الشعبية بتلك المواجهة تسمح للنظامَين في إيران والسعودية على السواء بتبرير سياساتهما الخارجية المتغيرة تبعًا لمصالحهما، واحتكار التمثيل المذهبي إلى حد بعيد. وبكلام آخر، يتعلق الأمر بصراع نظامَين على النفوذ تحت غطاء صراع مذهبي.

لذا، عندما ننظر إلى سياسة إيران الخارجية، نجد أنها لا تنحصر بأهدافٍ شيعية ثورية، وإن كان النزاع الجيوبوليتيكي الإقليمي يفاقم العامل المذهبي. فالنظام وطد علاقات بأنظمة ملحدة مثل الصين وكوريا الجنوبية وفنزويلا، ودخل في مفاوضات مع الغرب بما فيه الولايات المتحدة الأميركية بشأن برنامجه النووي، أفضت إلى ضمان طابع البرنامج السلمي، وإلى رفع العقوبات الدولية العام 2015. كما وأن إضفاء الأولوية على المصالح القومية الإيرانية، قد حدّ كثيرًا من قدرة مرجعيات الثورة على التحلي بسلطة عابرة الحدود، وادعاء شمولية خطابها، بالرغم من تمكنها من تحريك بعض الجماعات الشيعية في بعض البلدان العربية للمطالبة بحقوقها السياسية. فإن كانت إيديولوجيا الثورة تستمر داخليًا وخارجيًا بفضل سياسة إدارة المرشد الأعلى، فإنها اصطدمت ولا تزال تصطدم بتحديات بنيوية ومصالح إيرانية قومية ومعارضة داخلية، تُفقِدها زخمها الشمولي، وتحصُرها بتزايد ضمن حدود الدولة الإيرانية ومصالحها. وبالتالي، تتراجع قدرتها أيضًا على ادعاء تمثيل الشيعة عمومًا.

وفي ما خص السعودية، فمن الثابت أن النظام الملكي يرتبط ارتباطًا وثيقًا بنشر صيغة الإسلام الوهابية، وهذا ما يثبته "القانون الأساسي" الذي صدر العام 1992. غير أنّ سياسة النظام الخارجية لا تنحصر في خدمة الدعوة الوهابية، بل نجدها في الغالب تتماشى وسياسة الولايات المتحدة الأميركية في المنطقة، وتنصب في إطار صدّ التوسع الإيراني وتيارات الإسلام السياسي التي لا تتفق وطبيعة النظام. وليس هذا التوجه بالأمر الجديد، فالنظام واجه المدّ الناصري الذي لاقى دعم الأزهر في القرن الماضي، وبوجه خاص من خلال إنشاء رابطة العالم الإسلامي إزاء الرابطة العربية، والجامعة الإسلامية في المدينة إزاء الأزهر. وبالتالي، فإن المواجهة الدائرة إقليميًا التي تتخذ طابع صراع سني-شيعي، هي في الواقع صراع نفوذ بين نظامَين لا يستطيع أي منهما ادعاء حصرية تمثيل مذهبه. وبكلام آخر، إن ما يحرك السياسة الخارجية الإيرانية والسعودية ليست أهدافًا دينية موضوعية صرف، بل مجموعة خيارات برغماتية متعددة ومتغيرة تفرضها مصالح النظامَين وعوامل داخلية خاصة بهما.

بالعودة إلى الإطار اللبناني، تبرز صعوبة التوفيق بين تحديات تطوير مفهوم لمصلحة وطنية ينطلق من البحث الموضوعي في ما هو أفضل لجميع اللبنانيين، ومفهوم سائد هو بالأكثر، من جهة، انعكاس لارتباط بعض المرجعيات المحلية إقليميًا، ومن جهة ثانية، ناتج من فهم للوطن يرتبط بنظرة تاريخية تطورت في إطار طائفي. في ما يتّصل بالارتباط الإقليمي، فإن ما تقدم يفترض بالمرجعيات المحلية القيام بمراجعة دقيقة موضوعية لعلاقاتها الخارجية في ضوء البُعد الوطني الذي تكتسبه سياسات الدول، وبوجه خاص السعودية وإيران. ولا بد لهذه المراجعة الموضوعية أن تعيد النظر أيضًا في بعض المسلمات الدينية التي تتحكم في طريقة التفكير في المصلحة الوطنية والتي تُنتج التباسات شديدة. ويمكن تبيّن الأمر، على سبيل المثال، من قول لسماحة الشيخ نعيم قاسم: "نحن نؤمن بأنَّ ما يُصدره الولي الفقيه من توجيهات عامة ومن موقعه الديني الشرعي يشكل مصلحة أكيدة للمؤمنين في أوطانهم وقضاياهم، وبالتالي لا محلَّ للسؤال إن كان التوجيه يتعارض مع مصلحة الوطن! بل السؤال المطروح على الآخرين: ما هي الضمانات كي لا تؤدي رؤيتكم أو مواقفكم إلى التعارض مع مصلحة الوطن؟ وعندما يعبِّر الحزب عن مواقفه فهو يتصرف من منطلق رؤيته، وبناءً لتقديره للمصلحة، فإذا كان الأمر يتعارض مع توجهات ومواقف قوى أخرى فهو خلافٌ في تقدير المصلحة والموقف السياسي، وفي النهاية يعود الحكم للناس ليقبلوا أو يرفضوا أي موقف من المواقف"(حزب الله بين ولاية الفقيه والولاء للوطن، 2010).

ولكن لا يمكن الاعتبار بديهيًا أن "ما يُصدره الولي الفقيه… يشكل مصلحة أكيدة للمؤمنين في أوطانهم وقضاياهم"، لأنّ المصلحة الوطنية المتغيرة تبقى مستقلة في وجوه عديدة عن الغايات الدينية الشمولية. وللسبب عينه، لا يمكن التفكير في المصلحة الوطنية انطلاقًا من متطلبات "الدعوة الإسلامية"، ولا من متطلّبات "الرسالة المسيحية".

وخلاصة القول إنّه لا يمكن التفكير في مصلحة وطنية لبنانية إلا من خلال تطوير خطاب سياسي يستلهم عناصره من الدستور، بعيدًا عن المناورات والخداع المتبادل، وعن الخلفيّات الطائفية والمذهبية؛ فمن شأن هذا الخطاب المفقود إلى الآن أن يكتسب صدقية محلية وإقليمية ودولية.


حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم