الجمعة - 26 نيسان 2024

إعلان

حين يعتمر الكفيف طاقية مُلونةً: هل تبكي؟ لماذا تبكي؟

المصدر: "النهار"
نجم الدين خلف الله
حين يعتمر الكفيف طاقية مُلونةً: هل تبكي؟ لماذا تبكي؟
حين يعتمر الكفيف طاقية مُلونةً: هل تبكي؟ لماذا تبكي؟
A+ A-

من أقاصي قريةٍ نائية في جُزُر القَمر، أرسله أبوه إلى جزيرة "اللقاء"، بعد أن انسدَّت أمامه الآفاق وعجز عن مُداواتِه. سلمت الوالدة المعدمة فَلذَة كبدها إلى صاحب خَير، ذاك الذي لا يَملك من الخير إلا الصبر، وأملَ الإشراف على طفلٍ كفيفٍ، عساه يَجد من يداويه أو يُعِلْ أيامه السوداء. كان الصبيُّ قد أصيب بسرطانٍ جارفٍ، أفْقَده البصر، بُعيْدَ ولادته، فلم يَرَ من سحر الألوان سوى ظلالٍ باهتة، أغرقته في ظلماتٍ دائمة. ولكنَّ وجهه ظلَّ صبيحًا، تعلوه ابتسامةٌ ساحرة، ومعها تنسابُ عبارات الطفولة، كأنها شَهدُ الوَداعة.  

رآه الأستاذ صدفةً حذو صاحب الخير، جالسيْن على دَكَّةٍ ينتظران، وصمت الظلام مسترسل يَلف المكان، وفي النظرات ألمٌ وفي الصمت حيرةٌ لا تقاوم ولا تُفهم. سَلَّم عليهما. ولم يردَّ الصبي، فأشار المرافق بأنَّ الصبي كفيفٌ. فتحركت في ذهن الأستاذ صور من القنوات الفرنسية تستعيد لقطاتٍ من جولات الأم تيريزا في أحياء الهند الكالحة، وأبناء الشوارع المُرهقين. أراد بائسًا أن يقلد معانقتها الأطفال، وفي ذهنه: "الأدب مأساة أو لا يكون"، واقتربَ من الصبيِّ الكفيف، وضمَّه إلى صَدره. كان صادقًا في ضمته، إذ ليس أعتى في ذاكرته من مَشاهد طه حُسين يَسخر منه مُؤَدِّبُه وإخوته ويقصونه عن طبق العسل الأسود. أو لعله تذكَّر، وقتها، ابنَهُ في باريس، ولهما - فيما يبدو- نفس السنّ.
ضاحَكَه الأستاذ تائهًا بين ذكرياته وكُتبِه، فابتسم الصبي مُجيبًا بفَرنسيَّةٍ لذيذة، فَرنسية الجُزر القاصية بإمالاتها السابحة، وعباراتها الرخوة. وأبقاهُ في حضنه برهةً إلى أن لامست يداه شيئًا يَتَدَلَّى من على كتفه، ويغطي أعلى صدره. 

- مسيو ! ما هذا الذي يتدلى؟  

- هو وشاحٌ مُزَيَّن. أرسِله على صدري اتقاء البرد أو لفحات الحر.

طلب صاحبُ الخير من الصبي أن يتلوَ آياتٍ من القرآن، فسالت مِن فيهِ تلاوة كأنَّها "اللؤلؤ والمَرجان"، تترى سنفونيةً ضمائرية أخَذَتِ الأستاذ إلى ماضيه. وانهار حينها "عَصر الأنوار" وتهاوت موسوعاتُه الفاخِرة، وتداعَت أدبيات الوجود والعدم. واسترسل في قراءته الملائكية، فمادت معارِضُ الكِتاب ومَسارح العبث، وقفزت أسئلة حرَّى تَنخرُ أرشيفات الثقافة، وميزانيات مهرجان السينما بساحل فرنسا اللازوردي.

فوجئ المكان في تلك الجزيرة القاصية بكلام الله يتلوه كفيفٌ، من غير العرب. وتحيَّرت الأشجار الخضراء في عذابات هذا الصبي الذي لم ينطق بسوى عباراتٍ مقطعة، وجُملٍ بريئة. وانكفأ الأستاذُ على أعقابه يشاكس سؤال الشرِّ، وتاريخ الذَّنب، وأسرار الأقدار حين تنغلق على ذاتها، وكاد يَندم على السنوات التي قضاها في أروقة السوربون، بين معابد المعرفة وهياكل المنتديات الجامعية. آلمه هذا الظلام وصمته لدي صبي ضريرٍ، وانهارت قراءاته الطويلة ولغاتُهُ العالِمة، وتبعتها شَهائده التافهة، فبكى خجلاً، ثم بوجعٍ. وَأحسَّ الصبي بارتجاج صدره، فسَأل بصوتٍ عذبٍ:

- مسيو! هل تبكي؟ لماذا تبكي؟

 بحث الأستاذ عن حيلة يداري بها تأثره، ويفر من بَذاءَة الشفقة وتفاهة الكذب، فلم يجد سوى ملامح أمه العجوز، التي خلَّفها بعيدًا في مدينته على الضفة الثانية. تصنَّع شيئًا من العفوية وقال:  

- اشتقت إلى والدتي. هي بعيدة. لم أرَها منذ شهور.

أجاب الكفيف دون تفكير:

- أنا أيضًا اشتقت إلى أمي. هي بعيدة. لم أرها منذ شهور.

وكان جوابه ضربةً قاضية. ما أسخف أكذوبة الأستاذ. يا ليتها لم تجُل في خَاطِره ولم ينطق بها اللسان. أراد أن يتداركَ وَضعَه المُحرج. وأحس أنَّ دور النشر الفرنسية ومئات الروايات التي تصدرها سنويًا قد انفضحت جميعًا. فقال:

- ما أجمل ألوان طاقيتك القَمَرية ! مَن أهداكها؟

 لاحظ أنَّ سؤاله التافه يقصر وضعَ المكفوفين في دور المتلقي للهدايا والعطايا، وتذكر أنَّهم لا يبصرون الألوانَ، ولا يعرفون من فروقها شيئًا. ما أقسى البداهات حيت تواجِهُ الغباء الحديث. في قرارة نفسه، لعنَ شركات التصوير وإنتاج الأفلام العالمية. ولكنَّ الصبي أجاب في مكرٍ:

- دائما تفوز طاقيتي في سباق الألوان. هي الأجمل في العالم. خاطتها لي أمي. أمي البعيدة في قريتنا هناكَ.

قَبَّله في استحياءٍ، وسلمه إلى مرافقه. حان موعد العودة إلى البيت. في قراراته، تساءل وهو يُوَدِّعه: مَن سيلاعب الكفيفَ في شُقة صاحب الخير البائسة؟ مَن سيؤاكله الأرز بصنوف البهارات الحارة؟ هل ستلامس أصابعه شاشات الإيباد الناعمة، كما يفعل أبناؤه في شقته الباريسية الفاخرة؟

شدته ألوان الطاقية الزاهية، تلك التي حاكتها أمٌّ مَكلومة في ابنها الضرير، بفعل السرطان. قرر الأستاذ إعادة قراءة "الوجود والعدم" لسارتر وتمزيقه بَعدَ الفراغ. 

الكلمات الدالة

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم