السبت - 27 نيسان 2024

إعلان

من رواندا إلى الشرق الأوسط: حروب مختلفة، ألم واحد

المصدر: "النهار"
تمام العودات- نائب المدير الطبي في منظمة أطباء بلا حدود
من رواندا إلى الشرق الأوسط: حروب مختلفة، ألم واحد
من رواندا إلى الشرق الأوسط: حروب مختلفة، ألم واحد
A+ A-

في صباح معتدل تحت الشمس الأفريقية الحادة، حطت بي الطائرة في كيغالي برواندا متجهاً إلى جمهورية الكونغو الديموقراطية للعمل في مستشفى أطباء بلا حدود. جاءت هذه الرحلة بعد عقد ونصف عقد من المرة الأولى التي سمعت فيها عن الإبادة الجماعية التي حصلت في رواندا عام 1994. أوصلني سائقنا إلى منزل أطباء بلا حدود قرب المطار حيث يمر المئات من العاملين الإنسانيين في طريقهم إلى أي من المستشفيات العشرة التي تديرها المنظمة في شرق الكونغو إذ جرّدت الحرب خلال الأعوام العشرين الماضية المنطقة بكاملها من معظم الخدمات الصحية وتركت مئات الآلاف من السكان معتمدين بالكامل على خدمات المنظمات الإنسانية.  

أوصلني مدير المنزل إلى غرفتي التي سأبقى فيها ليلة واحدة قبل أن أسافر في الصباح التالي إلى بوكافو على ضفاف بحيرة تنغانيكا، وضعت حقيبتي وتوجهت مباشرة إلى متحف الجينوسايد (الإبادة الجماعية) القابع على تلة في وسط العاصمة. أشرت إلى أحد سائقي الدراجات النارية صينية الصنع التي تعمل كتاكسي في المدينة وبدأنا طريقنا باتجاه المتحف.

قد يصعب تخيّل أن يذهب أحدنا مختاراً إلى متحف عن الموت، خصوصاً عن موتٍ يأتي به الجيران. ولكن الكثير من الغرائب تحدث عندما نعمل في المجال الإنساني حيث تصبح الحرب في أراضٍ بعيدة حديث اليوم ونصبح خبراء في أسماء القرى في جنوب السودان والصومال وفي أنواع الطعام الإثيوبي والنيجيري، ونتعلم تاريخ النزاعات القبلية والعشائرية في دول لم تصلها مناهجنا المدرسية. عندما تصبح الحرب عملنا اليومي، لا كجنود يحملون الأسلحة بل كعاملين إنسانيين نحاول عكس تأثيرات الحرب المدمرة، تصبح الاهتمامات التي تشغل أيامنا مختلفة قليلأ. وفي ذلك اليوم في كيغالي أردت أن أرى كيف يتذكر مجتمع صغير حرباً مسعورة قتلت ثمانمئة ألف شخص في ثلاثة أشهر منذ أقل من عشرين سنة وكيف يمكن أن يتعافى أهله من قتل جماعي مجاني مبني على اختلاف عرقي بين جيران طالما عاشوا قرب بعضهم البعض؟

تواردت هذه الأسئلة في ذهني بينما كنت على الدراجة النارية خلف السائق الذي قادنا بسرعة باتجاه مركز العاصمة ولفتت انتباهي نظافة الشوارع غير المألوفة في الدول الفقيرة. ولكن رواندا ما بعد الإبادة الجماعية مختلفة عن معظم الدول المجاورة من حيث نوعية الحياة والاستقرار ومن حيث البنية الاجتماعية فلم يتجاوز المجتمع المذبحة نسبياً فحسب بل مضى ليشهد تطوراً لافتاً يتضمن استقراراً اجتماعياً وتمثيلاً سياسياً غير معهود في العالم كله حيث تحظى النساء في البرلمان الرواندي بأعلى تمثيل في العالم (61%).

رأيت في المتحف المتخم بصور من قتلوا على أيدي جيرانهم معنى آخر للموت لأن بلدي سوريا تعاني في الوقت نفسه من حرب أدت إلى مقتل مئات الآلاف وتهجير الملايين في داخل البلاد وخارجها. لطالما آمنت خلال عقدين من العمل كطبيب أن المعاناة الإنسانية من الحرب والتهجير واحدة في كل أنحاء العالم، وعملت بنفس الشغف على مساعدة من يعانونها أينما كانوا إلى أن أتت الحرب في سوريا وأرتني أننا نحمل بلادنا ومجتمعاتنا في القلب مهما طالت غربتنا عنهم.

تعمل منظمة أطباء بلا حدود اليوم في دول بجوار سوريا مع اللاجئين وفي الأماكن التي يمكننا الوصول إليها في الداخل السوري كما تعمل في عشرات البلدان الأخرى التي تعاني الحروب والكوارث الطبيعية والأوبئة من طريق إيصال الطب الوقائي والعلاجي لمن يعانون هذه المحن. وقد وجّهنا الكثير من عملنا إلى مساعدة المارين على دروب اللجوء عبر البحر المتوسط وفي أوروبا في السنوات الماضية لتجاوز آثار الإهمال ومنع الدخول ونقص الخدمات، التي أدّت جميعها إلى غرق الآلاف أمام رقابة الدولة والإعلام والمدنيين وإلى أهوال المرض والجوع والفقد التي أصابت من بقي إن نجوا من الحرب ووصلوا إلى اليونان وإيطاليا بعد رحلاتهم المضنية عبر المتوسط.

نؤمن أن العمل الطبي الإنساني يمكن فقط إيصاله بطريقة غير متحيزة ترى الناس جميعاً متساوين وتلبي حاجاتهم من دون اعتبار للعرق أو الدين أو الجنسية أو الاتجاه السياسي. ولكن الالتزام بهذا الخط غير المتحيز يصعب أحياناً بسبب المؤثرات الخارجية التي تحكم وصولنا إلى من يحتاجون المساعدة إما لانعدام الأمن أو لمنعنا من الدخول بسبب السلطات بشكل متواصل. نستمر باعتبار العمل الطبي الإنساني الساعي إلى تزويد الناس بحاجاتهم الأساسية حقاً أصيلاً لهم بينما تعامل كثير من الأطراف مع هذا العمل الإنساني كمنحة يهدونها لحلفائهم أو كورقة مساومة لتحقيق مكاسب سلطوية أو عسكرية.

تشهد اليمن وسوريا وأفغانستان والعراق وجمهورية أفريقيا الوسطى وجنوب السودان ما يمكن أن نصفه بالحروب الجديدة حيث لم تعد الحروب تدور بين جيوش تقليدية لدول ذات سيادة وحتى الحروب الأهلية اليوم تتضمن جماعات مقاتلة عابرة للحدود كتنظيم الدولة الإسلامية والعديد من الميليشيات التي تحارب على طرفي النزاع في سوريا. ولم تعد الحروب كما كانت في القرن الماضي ظاهرة سياسية يتوجب الفوز فيها بل ظاهرة اجتماعية مبنية على اختلافات مجتمعية أو عرقية أو دينية لا يمكن ربحها. هذه الحرب كظاهرة اجتماعية بدل السياسية تستمر لفترات مطولة وتوجد اقتصاد حرب يفقر الناس ويغني المتحاربين ويحفّزهم على إطالتها بدل إنهائها. يتوجّب علينا في المجال الطبي الإنساني أن نعمل على مساعدة المتضررين من هذه الحروب فيما تتضاءل قدرتنا على الوصول إليهم ويقلّ اهتمام المتحاربين بالحفاظ على حياة وسلامة المدنيين.

كما تحيطنا اليوم مآس إنسانية لا يمكن تجاهلها من اليمن إلى سوريا والعراق وأخرى يقلّ ذكرها كليبيا والصومال والمزيد منها لا نسمع الكثير عنه كجنوب السودان والكونغو وبوروندي وجمهورية أفريقيا الوسطى. ما تعلّمناه في العمل الطبي الإنساني هو أن الظلم والتقصير مع أحد هذه المآسي يؤدي حكماً إلى المزيد من الظلم والتقصير مع حالات أخرى، فالسماح بإعادة اللاجئين من أوروبا إلى تركيا جعل من الطبيعي أن تسعى كينيا على سبيل المثال إلى إعادة اللاجئين الصوماليين في مخيم "داداب" القائم منذ عشرين سنة إلى الصومال التي تمزّقها الحرب، وتغليب مصالح الأطراف المتنازعين على سلامة المدنيين ومصلحتهم في سوريا والعراق زاد من صعوبة تقديم العون الإنساني لهم في داخل سوريا وخارجها وجعل العمل الإنساني سلعة يتاجر بها بين المتحاربين بدل من أن تكون حقاً لهؤلاء المدنيين. إضافة إلى ذلك، تتأثر فئات معينة بشكل حثيث عند تغلّب السلاح على الحوار والعمل الإنساني. فالنساء في المجتمعات المتحاربة يتأثرن بشكل مجحف عندما يتحوّل عنف النزاع المسلح إلى عنف أسري وعندما يحتجن إلى تزويد أسرهن بالأمان والطعام في زمن الندرة حين يذهب الآباء والإخوة إلى الحرب أو يقتلون في مضاجعهم كما يتأثر الأطفال خصوصاً بالجوع والأمراض حين توجه الموارد للمقاتلين بدل المدنيين وحين يصبح الحصار سلاح حرب.

أتيت إلى العمل الإنساني كجيل ثانٍ ليس من أصول غربية بل من واحدة من دول العالم النامي يسوقني طموح لأن أكون مفيداً ولكنني اليوم أجد نفسي بين الحرب في بلدي والعمل الذي اخترته غير قادر على الانتماء بشكل كامل لأي منهما: ليس للحرب في بلدي لأنني عشت الحرب في بلاد أخرى وعرفت فتكها بالحاضر والمستقبل، ومن جهة أخرى، ليس للفكرة الغربية حول "مساعدة المساكين في العالم الثالث" كآخرين تجب مساعدتهم وليس العمل معهم. إنما لعملي مع منظمة "أطباء بلا حدود" ولعملي الإنساني في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا كما في أماكن أخرى من أن ابتعد عن كوني مراقباً مغلول اليدين في حروب الآخرين إلى مشارك فاعل، ليس في القتل والدمار كما تتوقع الحروب من أفراد من جنسي وعمري وانتمائي، بل كما أرغب أنا عبر مساعدة من يعانون القتل والدمار.

رأيت متحف الموت في كيغالي ونظرت إلى أعين الناس في صورهم المعلقة على الجدران ممن فقدوا حياتهم في حرب بعيدة، وفكرت في كل الناس الذين شاطرتهم الحياة والعمل في العراق في مهمتي الإنسانية الأولى منذ خمسة عشر عاماً وفي اليمن وفي سوريا، كل الأصدقاء، كل الزملاء، وكل الذين نجوا من الحرب والذين لم ينجوا منها... كم هم أحبائي، مختلفون عن هذه الصور، وكم يشبهونها.


حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم