الجمعة - 26 نيسان 2024

إعلان

تأليه الإمبراطور إلى متى؟

المصدر: "النهار"
الأب جورج مسّوح
تأليه الإمبراطور إلى متى؟
تأليه الإمبراطور إلى متى؟
A+ A-

لو كانت المسيحيّة ديانة تبيح ممارسة "التقيّة"، وهي "التظاهر بغير ما يُعتقد خوفًا من البطش"، لكانت الدولة الرومانيّة، إبّان القرون الأربعة الأولى من المسيحيّة، قبلت بالمسيحيّين مواطنين صالحين، ولكانت عَفَت عنهم، ولم تمارس الاضطهادات بحقّهم. 

 لا ريب في أنّ الدولة الرومانيّة، آنذاك، لم تكن تعنيها العقيدة المسيحيّة بقدر ما كان يعنيها ولاء المسيحيّين للإمبراطور. فالدولة الرومانيّة المترامية الأطراف كانت تسمح بالتعدّديّة الدينيّة، شرط أن "لا يكن لأحد آلهة خاصة، لا جديدة ولا غريبة، إنْ لم تعترف بها الدولة" (من قوانين شيشرون). يعود للدولة، وفق شيشرون المشرّع الكبير، الحقّ بالاعتراف بالديانات الجديدة أو عدم السماح بوجودها.

لماذا، إذًا، لم يتمّ الاعتراف بالمسيحيّة قبل مرسوم الإمبرطور قسطنطين العام 312 الذي سمح فيه للديانة المسيحيّة بحقّ الوجود والعمل في الإمبراطوريّة؟ تعدّدت الأسباب، لكن يبدو بارزًا أكثر من سواه أنّ السبب الرئيس للاضطهاد إنّما هو تصدّي الدولة الرومانيّة لموقف المسيحيّين من الدولة، وعدم انسجامها في سلوكها الوطنيّ والسياسيّ مع القيم المسيحيّة...

دامت الاضطهادات نحو قرنين ونصف من العام 64 (نيرون) إلى العام 311 (قسطنطين)، وكان يتخلّلها فترات من الهدوء، تعاقب فيها العديد من الأباطرة الذين توالوا على الاستمرار في سياسة الاضطهادات، التي كانت الصبغة السياسيّة، لا الدينيّة، تطغى عليها. فمكسيمينوس الإمبراطور (235) أقدم على مطاردة رؤساء الكنائس، إذ اعتبرهم مسؤولين عن "ديانة تضعف الإمبراطوريّة بصرف المنتمين إليها عن الخدمة في الجيش". أمّا داكيوس (250) فكان أوّل من نظّم الاضطهاد في كلّ أنحاء الإمبراطوريّة، فارضًا على كلّ مواطن أن يشارك في تقديم الذبائح للآلهة الوثنيّة.

كانت الدولة الرومانيّة تحرص على تكريم آلهتها، تعتبر أنّ تلك الآلهة هي حامية الإمبراطوريّة وحافظتها ضدّ أعدائها، لذلك، "لم يكن تكريم الآلهة الوثنيّة واجبًا دينيًّا وحسب، بل كان واجبًا وطنيًّا أيضًا، وهذا ما كان يصدم إيمان المسيحيّين الصارم بالتوحيد". ولم يقبل المسيحيّون بعبادة الإمبراطور الرومانيّ، وقاوموها. هم كانوا "يحترمون الإمبراطور ويطيعونه بصفته المسؤول عن السلطة العليا في الدولة، ولكنّهم كانوا يرفضون أن يعترفوا به كإله". لكنّ الإمبراطور اعتبر أنّ رفض المسيحيّين المشاركة في الإجماع الإمبراطوريّ كما لو أنّه تمرّد على الإمبراطوريّة نفسها، وخيانة لمبادئها، واعتداء على "عظمة الشعب الرومانيّ".

لا ريب في أنّ موقف الكنيسة من مسألة الدولة قد تغيّر بتغيّر الدول والعصور. فباتت، مثلاً، الخدمة في الجيش مباحة وسائغة، ذلك أنّ عبادة الإمبراطور والألهة الوثنيّة قد ألغيت إلى غير رجعة. لكن، في الواقع، يبدو عيانًا أنّ علاقة الناس في بلادنا مازالت تحاكي إلى حدّ كبير العلاقة التي كانت قائمة ما بين شعوب الإمبراطوريّة الرومانيّة وإمبراطورهم المؤلّه ذاته.

هذه المحاكاة نجدها في الكثير من العبارات السائدة إلى اليوم: قيل قديمًا في تسويغ الاضطهادات "المسيحيّة ديانة تضعف الإمبراطوريّة"، فيما يقال اليوم "هذا الفكر الناقد يثبط الروح القوميّة أو الوطنيّة ويضعف الأمّة". حكي قديمًا عن "عظمة الشعب الرومانيّ" كذريعة للإجماع الإمبراطوريّ، فيما ترفع شعارات في كلّ الأوطان عن "عظمة الشعب الفلانيّ" كذريعة للإجماع الوطنيّ...

أمّا في شأن عبادة الإمبراطور، فمن البديهيّ القول بأنّ هذه الممارسة ما زالت قائمة في معظم بلادنا. فإمبراطورنا الثنائيّ الوجه، الأوّل الظاهر في الصورة للصورة فقط؛ والثاني الحقيقيّ القابع في خلفيّة الصورة، معصوم عن الخطأ. معصومٌ هو وكلّ مَن يأتمر بأوامره. معصوم هو وحاشيته وأصحابه وأهل بلاطه. عبادته واجبة، ملزمة، لنيل شهادة المواطنة السليمة. عدم عبادته، خيانة وطنيّة، ارتداد قد يستوجب الإعدام والموت.

هل يمارس مسيحيّو زماننا "التقيّة" في تعاملهم مع الإمبراطور؟ هل، تقيّةً، يصمتون عن ممارساته وإنْ ذهبت ضدّ التعاليم الإنجيليّة؟ لقد رفض المسيحيّون القدامى، كما رأينا، مبدأ التقيّة، وفضّلوا قول الحقّ على أيّ أمر آخر، ودفعوا الثمن غاليًا، بلا ريب. ولكن يجب الانتباه، أيضًا، إلى أنّ ثمّة ثمنًا للتقيّة سيؤدّى ذات يوم مقبل. فليكن الثمن المؤدّى في سبيل الحقّ الإنجيليّ، لا على مذبح الإمبراطور المؤلّه ذاته.



حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم