السبت - 27 نيسان 2024

إعلان

الشعر مُنقذاً للغة

المصدر: "النهار"
أسعد الجبوري
الشعر مُنقذاً للغة
الشعر مُنقذاً للغة
A+ A-

على متن الريح 

دون كيشوت: كم مضى علينا في حرب الطواحين يا سانشو؟

سانشو: منذ الجاهلية يا سيدي الدون. وإنه ليس بالزمن الطويل كما أعتقد.

دون كيشوت: ليس بالطويل تقول؟! ولا بالزمن العريض أيضاً؟

سانشو: إذا لم يكن طويلاً ولا عريضاً، فما يمكن أن يكون يا سيدي الدون؟!

دون كيشوت: ما دام هو من الأزمنة العربية، فلا كان ولن يكون زمناً من المواقيت. بل من الدماء؟

سانشو: أيكون هذا مكتوباً على أوراق التاريخ يا سيدي الدون، ولا أعرف؟!

دون كيشوت: من حقك أن تقول ذلك يا سانشو، فحتى المؤرخون – عرباً وأجانب - لا يعرفون كم تعداد فصائل ذلك الدم وزمره.

سانشو: ولا أنواع الأوردة والشرايين التي يجري بها ذلك الدم المختلف المصادر المتنوع المتضادّ المشبّع بحديد الجبال وزجاج الرمال وحركات المد والجزر.

دون كيشوت: كأنك حفيد أبي الحسن علاء الدين علي بن أبي الحزم الدمشقي الملقب بابن النفيس مكتشف الدورة الدموية؟

سانشو: لو كنت مكتشفاً لتلك الدورة، لأطلقت عليها اسم الدورة الحربية، ونقطة على السطر.

دون كيشوت: هل تؤمن يا سانشو بعسكرة الدم؟

سانشو: ماذا تعني يا سيدي الدون: أن تُفتتح في الشرايين والأوردة معسكرات للجيوش، فتتدرب الجند، وتصبح الثكنات مكتظة بالأسلحة؟!

دون كيشوت: الله الله على ثقافتك وفهمك يا سانشو! قل لي من أين استوحيت تلك الصور والأفكار لتتحدث بهذا المنطق المخبول؟

سانشو: أنا تعلمت ذلك من المنطق الذي يقول ان عسكرة كل شيء تبدأ إما بكهف أو بثكنة أو بكتاب. عسكرة الدم يا سيدي الدون تبدأ من كل هذه الأشياء كما أظن.

دون كيشوت: إنها الكتبُ قبل الثكن؟

سانشو: تعني أن المقاتلين يتمرنون في الكتب، متعلّمين استخدام الأسلحة للقتل يا سيدي الدون؟

دون كيشوت: أجل يا سانشو. فكتبُ الأسلاف معسكراتٌ وثكنٌ ومخازن للقتال ومستودعاتٌ للبارود.

سانشو: ومنها يخرج المطاوعة والأخوان أيضاً. أليس كذلك يا سيدي الدون؟

دون كيشوت: أجل. منها يخرجون إلى الساحات شاهرين الرماح والسيوف، ولا يعودون إلا إلى المقابر للراحة. فالحداثة عند أهل السلف، تتجلى في الاستجمام بعذاب القبر، ومنه يتثقفون.

سانشو: هل لي أن أسألك يا سيدي الدون؟

دون كيشوت: لا. فهذا الزمن ليس للأسئلة يا سانشو. فما من جواب عن سؤال كُتبَ بالدم حبراً ؟

***

موقف القبائل

ولما نزع عنها أقراطها

وعلقها بلغاتهِ في التموجات.

أدخل نفسه عليها غيمةً حافيةً

ليكون.

هو الذي حين أخذ من صدرها حبراً

لمخلوقاته في الليل

وأغمضها عند تلاله.

هو الذي سار بها ميلاً وميلاً وميلين

حتى انكشف على ارتفاعه مصباحاً

برقبّة طويلةٍ من الصفات.

قالت له: أيّ أرضٍ نعبرّ نحن الآن؟

قالَ: ما هذه بأرضٍ ولا تلك بسماء.

سيتوافد علينا النيامُ في موقف القبائل/

ويصير اللحم طحيناً والأجسادُ أكياساً في الشوارع.

ومن هنا وإلى هناك

ستأخذنا طلقاتٌ لتعبر بنا.

حينها كم ستكون الهويات أجنةً

فاسدة.

إلهي، قالت.

وأردفت:

سأكسر عن نفسي الحجابَ،

لأرى العارفَ يردم الظلام في الكهوف.

لأسمع رنين الدماء وهي تغادر القواميس.

لأرسم خطّ سير الرمال من الجاهلية

حتى غرفة الربّ المتاخمة لمشرحة الإيديولوجيات.

إلهي،

ما أضيقنا في نسب الأرض،

وفي الشاسعِ من سلالات التيه.

إلهي،

أيّ جينوم هو المستثمر الأعظم في بنك الموت.

و...

آمين.

***

غرفة للغرائز

ليس في الشعر أوهامٌ. هناك أرواحٌ حارّة وأرواحٌ صامتة وأخرى تجريدية، لا تقبل القسمة إلا على أرقام العواطف وحدها. الشاعر في حريته، لا يؤلف، بقدر ما يعيد صياغة المخلوقات المختنقة حوله في العالم المادي. أي أن الشاعر يحرر الكائنات من الاختناق بطريقته الخاصة والاستثنائية.

تقول إحدى الأساطير الحديثة: ان اللغة، لم تعرف الشعر إلا بالمصادفة.

فالحكاية تبدأ، انه وما إن شعرتْ به اللغةُ، أن مخلوقاتها بدأت تشارف على التصحر والموت والهلاك، حتى أطلقت من رحمها الكلمات هائجةً مذعورةً، لتبحث عن منقذ لها من ذلك المقتل العظيم.

وفيما كانت اللغة تمشي كما السلاحف على ذلك الطريق الزراعي ما بين أبراج النحو والبلاغة والصرف، صادفت في أثناء مسيرتها أكوام بيض منتشرة على امتداد مسافات طويلة، فما كان منها إلا أن أنزلت من رحمها، البقية الباقية من ألوف الكلمات، لتلتهم ما كان موجوداً على الأرض وتحت التراب من بيض.

وما هي إلا ساعات، حتى استعادت اللغةُ قوتها، وأدركت أن مخلوقاتها من الكلمات، قد بدأت تفيض بالحرارة والجماليات.

لم تعرف اللغةُ آنذاك، حقيقة ما حدث لها بالضبط. لكنها عادت إلى أبراجها القديمة، وهي في تمام الحركة والنشاط وفائض من طاقات، حالت دونها ودون التصحر والفناء. لكن الشعر الذي قدّم لها بيضه، سرعان ما بدأت علاماته بالظهور جمالياً على اللغة التي أصبحت مفعمة بالطاقات والأحاسيس، مما دفعها إلى إدراك أن الشعر هو الذي أنقذها من اليباب والموت.

ذاك ما وُجد مدوّناً في سجل الأسطورة: أن المضادّ الحيوي للغة من الانحطاط، كان بفعل وجود فيتامينات الشعر في بيض طيور النانو.

***

بنك الخيال

ساعةُ اليدِ بنكٌ للانتظار...

وأيضاً محطاتٌ للوداع.


الكلمات الدالة

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم