الجمعة - 26 نيسان 2024

إعلان

عندما كان للسياسة معنى

المصدر: "النهار"
نواف كبارة- أستاذ جامعي وناشط
عندما كان للسياسة معنى
عندما كان للسياسة معنى
A+ A-

الحديث عن عبدالمجيد الرافعي هو الحديث عن فترة زمنية كان للسياسة فيها معنى. هو الحديث عن رجل فرض أجندته السياسية على الحركة السياسية الطرابلسية واللبنانية. هو الحديث عن رجل رفض الانتهازية السياسية التي كانت من الممكن أن تجعل منه زعيم طرابلس الأول وذلك دفاعاً عن حزب وخط سياسي انتمى اليهما ورفض أن يتخلى عنهم بحثاً عن شعبية هنا او هناك.

إنه الحديث عن الحكيم الذي دفع من طريق خدماته الطبية المجانية لفقراء طرابلس الى نشر خطاب الدفاع عن حقوق الفقراء بالطبابة والتعليم والعيش الكريم. إنه الحكيم الذي حوّل مأوى العجزة في طرابلس الى جانب النائب الراحل الدكتور هاشم الحسيني الى مستشفى ميداني لمساعدة جرحى الانتفاضة الشعبية ضد حكم الرئيس كميل شمعون سنة 1958.

إنه هذا الشاب الذي ترشح للانتخابات النيابية للمرة الاولى في عام 1957 ليمثل طبقة الشباب المتعلمة الساعية الى تحديث النظام لسياسي اللبناني. وهو ايضاً هذا المرشح الذي خاض معركة الانتخابات النيايبة سنة 1960 وربحها لتسقطه الدولة بعد اعلان الفوز فيرفض جر طرابلس الى فتنة احتجاجاً على هذا التزوير الفاضح لنتائج الانتخابات آنداك. وعندما احتدم الصراع بين الرئيس جمال عبدالناصر وحزب البعث، حافظ عبدالمجيد الرافعي على ولائه للحزب ضد ارادة أبناء مدينته الذين كانوا ناصريين بامتياز فحرمه هذا الموقف لقسمٍ كبير من شعبيته ودَفعته لعدم الترشح سنة 1964 وخسارة الانتخابات سنة 1968.

ولم يستطع حكيم الشعب (كما كان يُسمى) على الدخول الى البرلمان الا بعد وفاة الرئيس عبدالناصر سنة 1970 وسقوط الشهابية في لبنان في السنة نفسها. دافع عبدالمجيد الرافعي وهو البعثي العروبي على حق المقاومة الفلسطينية بقتال الدولة الصهيونية ولو على حساب سيادة لبنان وارادة سلطته السياسية، وشجع الكثير من اعضاء حزبه الى الانضمام لصفوف المقاومة دفاعاً عن القضية الفلسطينية ورفضاً لهزيمة العرب سنة 1967.

الا ان الاحداث المؤلمة التي مر بها لبنان ابتداءً من عام 1975 فرضت على عبدالمجيد الرافعي انشاء تنظيم مسلح لحماية مدينة طرابلس بعد سقوط سلطة الدولة. وبعكس كثير من التنظيمات المسلحة التي نشأت آنذاك، فإن تنظيم حزب البعث العسكري لم يُعرف عنه القيام باي أعمال سرقة وقتل طائفي بل على العكس من ذلك، أرسل الرافعي مسلحيه لحماية منازل المسيحيين المقيمين في طرابلس من اي اعتداءٍ طائفي يُمكن ان يتعرضوا له. تعرض منزل الرافعي الى السرقة والحريق مرتين. الاولى على يد قوات الردع السورية سنة 1976 والثانية على يد حزب التوحيد الاسلامي سنة 1983. فرضت الظروف على الرافعي الهجرة من لبنان والعيش في بغداد حيث يحكم حزبه العراق.

وخلال هذه الفترة، كان لبنان وطرابلس دائماً في ذهنه ووجدانه. في عام 1998 عندما كان الدكتور سليم الحص رئيساً للحكومة، ارسل لي الدكتور عبدالمجيد لانقل الى الرئيس الحص عرضاً من الحكومة العراقية ببيع لبنان حاجاته من النفط بنصف سعر السوق وباقي المبلغ يأخذه العراق بضائع لبنانية.

منعت السياسة في شقيها الاقليمي والدولي على لبنان استغلال هذا العرض المغري، والذي لو نُفذ لكان وفر على لبنان مليارات الدولارات من الدين العام. كما عرض الرافعي أن تعيد الحكومة العراقية تأهيل مصفاة النفط في طرابلس مما يؤمن العمل للمئات من ابناء المنطقة ويضمن وفراً مالياً مهماً للدولة الا ان السياسة منعتنا ايضاً من الاستفادة من هذا العرض.

في عام 2005 وبعد عودة الدكتور عبدالمجيد الى طرابلس بعد سقوط العراق على اسر الاحتلال الاميركي له سنة 2003، خضت معه معركة الانتخابات النيابية. ولم ازل اذكر يوم قررنا ان ننظم مسيرة داخل اسواق المدينة كيف كان الحكيم يسأل بالاسم عن سكان كل بيت وماذا جرى لهم وكيف كان ابناء اسواق طرابلس يهرولون اليه ليلقوا عليه السلام ويذكروه كيف كان يزورهم في منتصف الليل ليقدم لهم الخدمة الطبية عند الحاجة. كنت استمر في زيارة الحكيم من وقتٍ لآخر وكان الحكيم هو نفسه هذا الرجل الاصلاحي الذي يريد تغيير الواقع السياسي والاقتصادي لمدينته.

مات عبدالمجيد وهو صاحب ثروة متواضعة نسبة لشخص اصبح يوماً نائب رئيس القيادة القومية لحزب البعث في العراق اي نائب صدام حسين. هكذا كانت اخلاق وطباع سياسيي الزمن الجميل، الزمن الذي كان هناك إخلاصٌ للناس ودفاعٌ حقيقي عن مصالح الناس واحترام لللمبادئ والحفاظ على الشهامة ورفعة الاخلاق. لم يكن كل سياسيي لبنان هكذا، ولكن الكثير منهم كانوا كذلك. رحم الله عبد المجيد الرافعي.      

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم