الجمعة - 26 نيسان 2024

إعلان

سألَتْني بهلع: هل أنتَ حقّاً من عرسال؟!

محمد الحجيري
A+ A-

عرسال بلدة سنّية، نائية ومهملة، على الحدود اللبنانية - السورية في البقاع الشمالي، في محيط شيعي يتسم بالعشائرية وبسيطرة "حزب الله"، وكذلك ببؤسه المعيشي، شأن عرسال نفسها. ما بعد العام 2005، بدأت صناعة الصور الإعلامية والأمنية النمطية لعرسال. البؤس والجهل في البلدة البقاعية الجرداء، وكذلك الحاجة الدعائية والأمنية لـ"حزب الله"، ساعدت في إشاعة هذه الصور، وصولاً الى اعتبار عرسال معقلاً للإرهاب. هنا قصة مأسوية لعرسال بوصفها ضحية للغوغاء الإعلامية، وغياب أجهزة الدولة ومؤسساتها.


يوم خرجتُ من عرسال للمرة الأولى، كانت بلدة نائية تعيش على الزراعات البعلية والتهريب وبعض الوظائف القليلة في مؤسسات الدولة، مثل الجيش والتعليم، وتكاد تقتصر الوظائف المهمة على ضابط واحد في قوى الامن الداخلي. كثرٌ من الشبان تفرّغوا في الميليشيات الشيوعية والناصرية والفلسطينية، بعضهم قُتِلَ في خنادق الصراعات المحلية، أو في الجبهات المتقدمة مع إسرائيل. كانت "الشهادة" كافية لتصوير عرسال على أنها "أم الشهداء" و"خزّان المقاتلين" و"قلعة العروبة" و"معقل اليسار" و"عرس الابطال"، على ما ردد الراحل جورج حاوي في تأبينه محازباً شيوعياً قُتل في مزارع شبعا. كان سهلاً على الإعلام الحزبي اليساري والفلسطيني تصوير عرسال في صورة نمطية واحدة. كان في البلدة الكثير من اليساريين والعروبيين الذين استظلت بهم الدعاية الايديولوجية التي كانت بديلاً من العائلية والطائفية، قبل أن تظهر هشاشة الانتماء الحزبي، ويتهاوى معظمه، كأنه شركات أعلنت إفلاسها، فلم يبق منها سوى صور القتلى في الأرشيف.
كان من دواعي خروجي من عرسال، شعوري بالضجر من مناخها القاسي شبه الصحراوي، ومن عزلتها وانغلاقها بين جبال لبنان الشرقية، إضافة إلى ضآلة الحياة فيها. فهي كانت تبدو كأنها نهاية العالم عند الحدود اللبنانية. ربما لا تختلف الحياة في عرسال عنها في معظم ما يجاورها من البلدات والقرى البعلبكية. تبدو لي هجرتي شبيهة بهرب من واقع ولدتُ وعشت فيه، كالكثر من أبنائها، على هامش ناءٍ للدولة اللبنانية، أو هو أشبه بمنطقة سائبة بين دولتين. فلا هي تابعة إلا شكلياً للدولة اللبنانية، ولا هي تابعة للدولة السورية. هذا ما أبقاها مهمّشة ومنسية، يعمل أهلها أعمالاً شاقة وصعبة أو خارجة على القانون، لتتزايد وتيرة تهميشها في أيام الحرب الأهلية.


مقارنات وتحولات
بين خروجي من عرسال وعودتي إليها في زيارات عابرة خلال العقدين الماضيين، كنت انتبه الى تبدل صورتها في وسائل الإعلام وانقلابها رأساً على عقب. تزامن هذا مع تحوّل عمرانها إلى العشوائي وتمدّده أفقياً، في ظل غياب التنظيم المدني. كان انفجارها السكاني لافتاً. فالكثير من سكّانها لجأوا في الستينات والسبعينات من القرن الماضي إلى العيش في مناطق حوسيّة السورية ومشاريع القاع، وصولاً إلى القصير، حيث أنشأوا مشاريع زراعية، إضافة إلى رعاة الغنم أو "الطرّاشة" كما يسمّون انفسهم. لم أكن أنتبه الى الاجيال الجديدة من ابناء بلدتي. ربما آخر من عرفتهم، أولئك الذين أمضيتُ معهم بعض السنوات في المدرسة.
في مقابل تمدد عرسال العمراني العشوائي، كنت ألاحظ أن القرى الشيعية المنتشرة في البقاع الشمالي تعيش نوعاً من جمود أو قلة إعمار. قلّة من سكان عرسال غادرت البلدة خلال العقدين الماضيين في مقابل نزوح معظم سكان القرى الشيعية للإقامة في ضواحي بيروت، مثل حي السلّم والأوزاعي والرمل العالي. كأن العراسلة فضّلوا العيش في الريف على الانتقال إلى المدينة. ربما لم تسمح لهم الظروف بالانتقال من بلدتهم وتشكيل أحياء لهم في المدن، كما فعل أبناء البلدات البعلبكية الشيعية.
طوال طفولتي لم أتوقع يوماً أن أرى عرسال على هذه الشاكلة. فالبلدة التي ليس فيها ينابيع، والجرداء الجبال، استطاع أهلها تحويل جردها بصعوبة مساحات خضراء تحتضن الكرز الجردي والمشمش. ويقال إن شخصا يدعى ابو علي الجباوي زرع أول شجرة كرز في عرسال عام 1954، وسرعان ما صارت هذه الزارعة مورداً للعراسلة. إلى جانب الكرز كان العراسلة يعتاشون من رعي القطعان والزراعات البعلية. خلال سنوات الحرب كان بعض سكّانها يشتغل بأنواع التهريب إلى سوريا والتفرغ في الميليشيات. أما في مرحلة ما بعد الحرب الأهلية، فتحول كثرٌ من أهلها إلى العمل في مقالع الحجار ومناشره التي باتت موردا رئيسيا لسكان عرسال، وربما البقاع الشمالي على وجه الإجمال. ليس العمل في مقالع الحجار ونشرها، سهلاً وهيّناً، فهو من الأعمال الشاقة، وخصوصا للعمال الذين يتحملون أصوات الآلات مدى ساعات، ويستنشقون "الكمخة"، فتظهر على وجوههم وأصابعهم ملامح القسوة. ثم إن مقالع الصخر أشبه بلعبة الحظ في جرود عرسال. يبدأ صاحب المقلع بالجرف بحثاً عن حجار مطلوبة من دون أن يعرف ماذا سيحصد من تعبه. قد يدفع اموالاً طائلة ولا يحصل على نتيجة، وكثيراً ما يذهب ضحية تفجير الصخور.
منذ نشأتي حتى خروجي من عرسال وتواصلي مع الإعلام، كانت علاقة البلدة بجوارها موضع نقاش واهتمام، إلى جانب صورها المتقلبة والنمطية. فالبلدة السنّية، في منطقة يغلب الشيعة على سكانها من جهة لبنان، والمحاطة بعشرات البلدات السورية، كثيراً ما تكون موضع أسئلة حول هويتها ونمط عيش أهلها، وعلاقتهم بجوارهم وبالحدود السورية والتهريب والولاء الحزبي والسياسي. في الخمسينات كانت عرسال تعيش تحت رحمة الطفّار والمتسلطين من بعض العشائر المجاورة. يأتي المتسلط العشائري ويأخذ من العرسالي ما يشاء من الأغنام والماعز. في حوادث 1958 والصراع الشمعوني - الناصري، أو العروبي - الدولي في لبنان، تدفق السلاح من سوريا إلى المقاتلين في عرسال، فشاركوا في التمرد ضد الرئيس كميل شمعون، وتعرضت عرسال للقصف العنيف، وحصلت فيها حوادث قتل وتدمير. الإيجابية الأبرز في حوادث 1958 أنها أوقفت تسلّط الطفّار والعشائر على العراسلة، ولا يزال السكان يروون تلك الحوادث باعتبارها تمرّداً على الحكم الشمعوني، أدى إلى إعادة الاعتبار إلى بلدتهم.
الإيجابية الثانية لحوادث 1958 ان الرئيس فؤاد شهاب أوصل بعض الإنماء الى عرسال، كالكهرباء والمدرسة والمياه. لكن الفقر ظل حاضراً بقوة في تلك البلدة التي هاجر كُثُرٌ من أهلها إلى السكن في بيروت طلباً للعيش، وكان لافتاً أن معظم أولئك المهاجرين سكنوا في مخيم تل الزعتر الفلسطيني. لم تدم إقامتهم طويلاً في ذلك المخيم. هرب العراسالة من جحيم الفقر فوقعوا في فخّ الحرب الأهلية، فقُتل العشرات منهم. من بقي على قيد الحياة، عاد أدراجه إلى بلدته حاملاً معه مشاهد مآسٍ حصلت في المخيم. شبّان يتذكرون أيام اليتم التي أمضوها بعد فقدانهم أهلهم في تل الزعتر. كان اهتمام بعض المنظمات الفلسطينية واليسارية بضحايا تل الزعتر من ابناء عرسال طريقاً إلى تزايد انتساب الشباب العراسلة إلى الأحزاب العروبية أو القومية أو الفلسطينية أو اليسارية. بعضهم شارك في الهجوم على بعض القرى المسيحية المجاورة التي كانت تصنَّف "انعزالية" و"كتائبية" خلال "حرب السنتين" تحت غطاء "الحركة الوطنية". وكثر من عناصر الجيش اللبناني (العراسلة) انشقّوا عنه والتحقوا بما سمّي "جيش لبنان العربي" أو "جيش أحمد الخطيب".
طوال الحرب الأهلية ظلّت عرسال على مودة مع محيطها الشيعي، وعلى تواصل مع البلدات المجاورة من خلال بعض الأحزاب، ولم تحصل بينها ومحيطها إلا حوادث فردية نادرة، سببها بعض قطّاع الطرق، بل ان الكثير من شباب عرسال في زمن الفقر كانوا يشتغلون في سهل البقاع في قطف الحشيشة أو المشمش في مواسم محددة، قبل أن تصير لهم زراعتهم وأبواب عملهم الخاصة، وتصبح الحشيشة في لائحة الممنوعات اللبنانية بعد استتاب السلم. في زمن الوصاية السورية بقيت علاقة عرسال بمحيطها على وتيرة إيجابية، لكن سلوك ضبّاط المخابرات السورية في تلك المنطقة أسّس لعداوة بين عرسال وجوارها السوري. كان يكفي لشاب عرسالي أن يزور مقر المخابرات السورية ليخرج منه على عداوة للنظام السوري الذي كانت مخابراته في منطقة مشاريع القاع تحمي أحد اللصوص من أصل عرسالي وتقاسمه المغانم. هذا السلوك أسس لـ"زعرنات" كثيرة دفع الناس ثمنها في تلك المنطقة.


بؤس الإعلام والدولة
حاول "حزب الله" التواصل مع أهالي عرسال من خلال الانتخابات النيابية، لكنه فشل لأسباب كثيرة. لم تنفع طريقة توظيف نائب "شكليّ" في كتلة "الوفاء للمقاومة"، ولم تنشأ كيمياء سياسية بين العراسلة و"حزب الله"، الذي فشل في مخاطبة العراسلة، ربما لأنه حزب شيعي، قبل أن يكون حزباً يرفع راية المقاومة، وربما لأن الحزب يعتبر نفسه السيد ويريد من الآخرين أن يبقوا هوامش. وحين تكون منطقة ما رافضة لثقافة "حزب الله"، يصبح لدى هذا الحزب النيّة المسبقة لشيطنتها وتوجيه التهم إليها.
بدأ توتر عرسال مع محيطها في العام 2005، بعد اغتيال الرئيس رفيق الحريري، ومع بدء موجة التظاهرات وثقافة الحشود في وسط بيروت وشعارات "شكراً سوريا" و"سيادة حرية استقلال". نزل العراسلة كتلاً إلى ساحة الشهداء، بعد تضعضع الأحزاب العلمانية والعروبية في البلدة وأفولها. بعد سنوات من ظلم المخابرات السورية، عاد العراسلة إلى خيمتهم الطائفية. لم يكن نزول العراسلة إلى ساحة الشهداء في منأى من المشاكل، اذ تعرض المشاركون في التظاهرات للضرب بالحجار في منطقة اللبوة. وأخذت عرسال تشهد خلافات متزايدة على ملكية الأراضي الزراعية مع الجوار السوري. عاشت عرسال اذاً بين نار النظام السوري وحجار المحيط الشيعي العشائري. وأخذ الأعلام يزيد من توتر الأجواء، بتحويله خلافات صغيرة حول ملكية الأراضي إلى قضايا سياسية يحاول كل فريق أن يوظفها لصالحه. حاول البعض من سكانها التقرب من نظام الأسد، لكن غالبية جمهورها تميل إلى 14 أذار. بدأ هذا الميل يتلاشى، كما في غيرها من مناطق لبنان. استطاع "حزب الله" أن يحشد معظم أبناء الطائفة الشيعية تحت جناحه، ولأن عرسال غريبة عن ثقافة هذا الحزب، وجدت ملاذها في الميل الى آل الحريري.
مع بدء الثورة السورية عام 2011، عاد شبح التوتر إلى أجواء عرسال، وفرضت الأحداث نفسها بقوة، عليها، فصارت حادثة صغيرة في جرودها كافية لإشعال ضجة إعلامية. إعلام "المستقبل" يجعل من حادثة تهريب قضية وطنية كبرى. وإعلام "المنار" يفتعل الأخبار لتصوير عرسال على أنها مركز للإرهاب وتصديره. الصورة النمطية الجديدة التي يحاول الإعلام لصقها بعرسال هي الاسلام السياسي والسلفية.
صارت عرسال محوراً مربكاً مزعجاً و"جسمها لبّيساً" في وسائل الاعلام، وخصوصاً أن بعض العراسلة يقيمون على الحدود بين القاع وسوريا وفي منطقة جوسيّة والقصير، اضافة الى استقبال البلدة اللاجئين السوريين الذي اتسم بالفوضى والعشوائية، ونجمت عنه تشعبات كثيرة في ظل غياب الدولة اللبنانية والانقسام السياسي والمذهبي. ملابسات التجربة الحياتية والأمنية في عرسال السنوات القليلة الماضية، وهي كانت محور الإعلام، تتيح للمرء أن يقدم دراسة ميدانية عن بؤس الدولة اللبنانية وبؤس بعض الإعلام المرئي في لبنان. فمن مجرد حديث أحد الوزراء عن دخول "القاعدة" إلى عرسال، بدأت الاسطوانة الاعلامية لـ8 آذار تركّز على هذه القضية من منطلق تصوير المناطق المحسوبة على آل الحريري على أنها إرهابية، مع التذكير بأن حدود عرسال الواسعة مع سوريا فالتة ويمكن عبور جيوش من خلالها. لكن محنة عرسال شبيهة بمحنة معظم المناطق اللبنانية، حيث تستخدم الحوادث في تصريحات المسؤولين منصة للصراعات السياسية ولتسجيل الأهداف، وليست وقائع ميدانية قابلة للمعالجة. هذا مع العلم بأن العراسلة في طبيعتهم ينبذون الجماعات السلفية ويتصادمون مع أفكارها دينياً، بسبب اختلافهم عن هذه الجماعات في نمط الحياة والتدين.


حادثة الاستونيين
حادثة خطف الاستونيين التي لم تتوضح صورتها الرسمية حتى الآن، كانت أولى الحوادث التي زُج فيها باسم عرسال. هناك معلومات كثيرة لم تكشف، وهناك صراع أجهزة في هذه القضية. فبعد معمعة وصول الاستونيين الى جرود عرسال، قيل ان محتجزهم ح. ح. تسلمهم من جهات سياسية حزبية ووظّف خطفهم في إطار البحث عن فدية مالية. هذا المحتجِز السنّي كان من أرباب "حزب الله" في شبابه ومناصراً للمقاومة قبل أن يذهب مقاتلاً إلى العراق عام 2003 ضد الغزو الأميركي. هناك قتل رفيقه البعثي، فعاد هو إلى لبنان باحثاً عن مهنة جديدة، ثم ألقي القبض عليه أثناء تهريب السلاح الى نهر البارد. في السجن تعرّف الى عناصر من جماعات إسلامية متطرفة، وبنى شبكة علاقات تمتد من لبنان إلى العراق. خلال الأحداث السورية صار قريباً من جهات إسلامية ويعمل لمصلحتها في الخطف. نسج المحتجِز علاقات مع متطرفين آخرين، يفاجأ المرء كيف لشخص مثله أن يبنيها. حادثة الاستونيين التي أحيطت بالكثير من الغموض، أنتجت الكثير من المطلوبين، بعضهم قُتل في البقاع الغربي، وبعض آخر منهم أُدخل السجن. قيل ان شعبة المعلومات حاولت قتل المحتجِز ح. ح. وحاولت مخابرات الجيش القبض على خالد حميد الذي كان يساعد في حراسة الاستونيين أثناء خطفهم. بعد القبض عليه، قُتل في وسط الطريق وحُملت جثته في سيارة مدنية اتجهت نحو جرود عرسال. هذا الفعل أنتج رد فعل من بعض العراسلة على طريقة "عليهم يا عرب". هكذا ذهب الناس ضحية البلبلة ومشهد القتل البارد والعاري. من منطلق ما يسمّى "النخوة" الأهلية، لاحق العراسلة دورية المخابرات وأطلقوا النار عليها ظنّاً منهم أنها تابعة لأحد الأحزاب النافذة. هذه الحادثة حملت الكثير من التأويلات، بين غوغائية مهاجمي مخابرات الجيش، والطريقة المريبة التي اعتمدتها المخابرات في قتلها المطلوب، ثم جاء الدور الاعلامي ليزيد الطين بلة، بتماهيه مع الأجهزة الأمنية وتصويره العراسلة كإرهابيين متوحشين، يحملون الفؤوس للقتل. لا شك في ان بعض الشبّان العراسلة تعاملوا مع الحادثة بغوغائية وبدائية. فبعد انتهاء الاشتباك مع عناصر المخابرات، صفق البعض وآخرون أطلقوا النار في الهواء كأنهم عائدون من نصر عظيم. تصرّفوا بلا مسؤولية وبفوضى عارمة. في المقابل تصرفت أجهزة الدولة بلا مسؤولية أيضاً. أرسلت جنودها إلى عرسال، فضاعوا في الجرود ولم تسأل عنهم لساعات. لم تُستعمل الفؤوس والبلطات في حادثة عرسال، لكن بعض وسائل الاعلام أصرّ على ذلك، واستعملت بعض الصور الزائفة في الشيشان أو ملاعب كرة القدم، ولم تنف قيادة الجيش اللبناني خبر الفؤوس، إلا بعد 12 يوماً من وقوع الحادثة. ضاعت كل الحقائق في المعمعة وضاعت المسؤولية، وظهر حجم غياب الدولة والاهتراء الذي يكتنف بعض أجهزتها، اذ سمعنا عشرات الروايات عن حادثة واحدة.


صورة نمطية
النهم الإعلامي، وغياب الشفافية، والصور النمطية وإلباس الحوادث المحلية الصغيرة صورة صراعات سياسية وجودية، أدت كلها إلى إشاعة صورة نمطية متضخمة عن عرسال. حتى أن صديقة لي على شبكة الـ"فايسبوك" سألتني أخيراً:
- هل أنت حقاً من عرسال؟ نعم، قلت لها، فكتبت: هل أنت متأكد من ذلك؟!
كنت بارد الأعصاب معها، فرحتُ أتهكم بطريقة غير مباشرة. وهي تحادثني، ظننت أنها تتحدث مع وحش إرهابي. بعد وقت طويل من القيل والقال، تبدلت صورتي في مخيلتها، وبدأت تعتذر. ابن شقيقي تعرض مع زملائه لإذلال من القوى الأمنيّة على طريق الروشة، فلمجرد أن الدركي عرف أنهم من عرسال، أخذهم إلى المخفر في منطقة الرملة البيضاء، وبدأ يبحث لهم عن تهمة. وجد في جيب أحدهم دفتر سجائر لفّ، فأجبرهم على إجراء فحص المخدرات.
ساهم الاعلام عموماً وإعلام "حزب الله" خصوصاً في تضخيم صورة رئيس بلدية عرسال، مرةً بتحويله "رئيس جمهورية"، ومرة بإطلاق ألقاب عليه كـ"الامبراطور" و"ارنولد". لم يكن بعض الأمن اللبناني في منأى من هذا التضخيم. الأمن اللبناني الرديء والمتقاعس في أدواره، كان يكلّف رئيس البلدية الكثير من الأدوار والوساطات. من حادثة منطقة وشل القرّيص، في جرود عرسال حيث وقعت مجموعة من الجيش اللبناني في مكمن مجموعة مسلحة سورية، الى حادثة أحد المخطوفين من البلدة، وتولي رئيس البلدية مع مجموعة أشخاص تحريره بالقوة، الى التقارب الأمني مع رئيس البلدية ومشاركته في تسليم خاطف الاستونيين ح. ح.، الذي قيل إن الأمن دفع "ثقله مصاري"... تضافرت الحوادث والصور النمطية لتضخيم دور عرسال وأهلها البائسين المنسيين الا في صناعة الحوادث والصور.


الحرب السورية
كانت الحرب السورية كافية لإفراز الفوضى الأمنية والإجتماعية والتشبيح والكثير من الكوارث الإنسانية، سواء في منطقة مشاريع القاع أو في عرسال. كثيرون تعلّموا تجارة السلاح سواء أكانوا من السنّة أم من الشيعة، لأن هذه التجارة تدرّ اموالاً طائلة، قبل أن يتضخم تدفق سلاح العالم الى سوريا، حيث غزا "الجيش الحر" وباقي التنظيمات المسلحة مخازن أسلحة النظام. فوضى السلاح في عرسال سببها الرئيسي إهمال الأجهزة الأمنية اللبنانية، وتواطؤ عناصر مناصرة لـ"حزب الله" تبغي الربح السريع من بيع السلاح من مختلف الجهات. هناك روايات غرائبية في هذا المجال تتردد في الشارع والكواليس. ليس هدفنا هنا الكلام عنها لئلا نتحول الى ضحايا في غرف التحقيقات وسواها.
لا شك في أن لمعظم الأطراف في البقاع دوراً ما في مجال تهريب السلاح، وخلق الفوضى. لذا تحولت جرود عرسال وجرود بعلبك ممراً للمهرّبين ولكل أنواع التهريب، من المازوت والمواد الغذائية والأعلاف والخردة. من دون مواجهات انسحبت القوات السورية النظامية من على الحدود في منطقة عرسال وصولاّ الى القلمون والبلدات المجاورة لها، وحلّت محلّها جماعات هي أقرب إلى العصابات، بعضها مقرّب من النظام السوري وبعضها من الجماعات المتطرفة ومن "الجيش الحر". تحولت هذه المنطقة مركزاً آمناً لبعض الخاطفين واللصوص القتلة الذين يقومون بعملياتهم ويلجأون إلى الأراضي السورية. بسببهم تتحمل منطقة عرسال الكثير من المصائب، من دون أن ننسى بعض الأفراد العراسلة الذين لجأوا بدورهم الى التعيّش من العصابات، ووجدوا ملاذهم في السرقة وأعمال اخرى.
سقوط القصير زاد من فوضى النازحين السوريين ومن انتشار المسلحين والعداوات في محيط عرسال وجوارها. تهجّر الكثير الكثير من سكان القصير والبلدات المحيطة بها، وتحولت عرسال ملجأهم الوحيد في محيط شيعي يسيطر عليه "حزب الله" وفي محيط سوري ملتهب. ارتفعت أجرة المنازل بشكل جنوني، وتحول الشارع في عرسال كأنه سوق في حمص: فوضى دراجات نارية تحمل الرجال والأطفال والنساء، فشعر العراسلة بالاختناق من زحمة الدراجات. كان لديهم شعور عاطفي مع اللاجئين. لكن تنامي حركة اللجوء تحول عبئا على السكان. فعدد اللاجئين ربما يزيد على عدد سكان عرسال. بات بعض اللاجئين يتصرف كأنه داخل الأراضي السورية. حصلت إشكالات كثيرة بين سوريين وعراسلة بسبب بعض المسلحين، مما دفع بلدية عرسال إلى إعلان إجراء يقضي بمنع تجول السوريين بعد السادسة مساء ومنع أي مظاهر غير قانونية، وكذلك السيارات ذات الزجاج الداكن. كان السؤال الدائم لماذا لم تنظّم القوى الأمنية والعسكرية وهيئات الإغاثة دخول اللاجئين الى لبنان، فثمة مناطق شاسعة في جرود عرسال كأنها متاهة لا اثر فيها للأجهزة الأمنية والعسكرية. واذ تنوجد القوى الأمنية على أطراف عرسال، فإنها تغيب عن الحدود اللبنانية - السورية التي تنزرع بالفوضى والشائعات والروايات والقيل والقال.
منذ ما قبل أحداث عبرا في صيدا كان بعض السياسيين التابعين لـ"حزب الله" يتمنى أن تكون "عرسال بعد عبرا" انتقاماً منها بذريعة الاعتداء على العسكريين في جرود عرسال، ولأن البعض من أهلها يدعم "الثورة السورية" ثانياً، ولأن "حزب الله" يعتبر جرودها ثغرة يجب قفلها في وجه مهرّبي السلاح الى سوريا الثورة ثالثاً. جاءت تفجيرات الضاحية وبعض المناطق في البقاع لتزيد من حماسة بعض صحافيي "حزب الله" في الدعوة الى اجتياح عرسال بوصفها معقلاً للارهابيين!

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم