السبت - 27 نيسان 2024

إعلان

أشباح الحالمين في فندق "صدر بعل" بحمّامات تونس

المصدر: "النهار"
فاروق يوسف
أشباح الحالمين في فندق "صدر بعل" بحمّامات تونس
أشباح الحالمين في فندق "صدر بعل" بحمّامات تونس
A+ A-

يمكنك كل صباح أن تسأل الفنان التونسي نجيب بلخوجة: ما الذي فعلته بالرسم التونسي؟ إنه يقيم في النزل بشكل دائم. لقد قُدِّر له أن يستقبلك بلوحته "بغداد" كلما قدمت إلى فندق "صدر بعل" بحمامات الياسمين بتونس. إنها هناك. ما إن تلتفت حتى تراها لتهزّك بعنف وأنت تنتشي بها كما لو أنك تراها للمرة الأولى. هذه اللوحة رُسمت لتبقى. إنها خلاصته. المجنون الذي خطف المدينة التونسية في لحظة عقل هندسي. 

 نجيب بلخوجة (1933 - 2007) يندر أن تراه كاملاً مثلما يحدث في لوحته "صدر بعل". تقف أمام بغداده لا من أجل أن تستعيد مدينتك التي غابت كما لم يحدث لمدينة أخرى، بل لكي تتعرف إلى الهامها الساحر وهي تسبق المدن إلى جنّتها. لم يعترض بلخوجة طريقها، وقد رآها تسرع في اتجاه مصيرها. لقد اكتفى برحيق زعفرانها. هي ذي صورتها الأخيرة مركبة مثل كولاج من الروائح والأصوات والرؤى التي تضمّ بين دفتي كتابها الليالي العربية كلها. ليست هي بغداد التي أريد لها أن تُمحى، بل هي بغداد التي ذهبت إلى نومها كما كان بلخوجة يفعل حين يغضب من الدنيا.    

 سماء بغداد الحمراء تفتح أمامي أبواب متحف خيالي، من خلاله أتعرف إلى جزء عظيم من النتاج الفني لتونسي في القرن العشرين. فنانون موتى يقفون معاً، كما لم يقفوا في حياتهم. لوحات يقود جمال بعضها إلى جمال البعض الآخر بطمأنينة وهدوء وترف وأريحية مستسلمة لرخاء أسطوري هو وصيتها الأخيرة من أجل أن يكون العالم جميلاً.  

"ألم تر البحر من قبل"، يسألني رجل الأمن المكلف الجزء البحري من النزل. "بلى رأيته مرات عديدة. عشت إلى جواره أحيانا. غير أنها المرة الأولى أراه بعد دقيقتين مشياً من بغداد". لم يفهم الرجل. بدا مضطرباً. كان واجبه لا يسمح له برؤية عاصمة الألم. قلت له لكي لا يظنني أهذي: "لا عليك. إنها مجرد فكرة".

"صدر بعل" هو الآخر فكرة. يتمنى المرء لو أنه التقى مخترعها ليقول له "شكرا. يليق بالجمال، بحَمَلته، بمسيرته الغامضة، بحشد مركباته غير المرئية، بقوافله التي تشرح صدر الربيع على الخضرة، برقته التي تخف بالفراشات إلى أحلامك حين تنام أن تشكرك".


حين أتنقل بين الممرات مسحورا بالرسوم التي تحلق بالجدران بخفتها، أشعر أن أشباحا ترافقني فأُسرّ برفقة علي بن سالم ورضا بالطيب ومحمود السهيلي وعبد الرزاق الساحلي وحسان عمراوي وعبد المجيد البكري والزبير التركي ومحمد مهر الدين. "هل نسيت أحداً؟"، أسأل نفسي. لكني حضرت إلى هنا لأنسى. يعين الجمال على النسيان. ولأن الجمال يغفر ما قبله فإنه يتذكر بطريقة انتقائية. لن يتركني الجمال وحيدا في مواجهة ذاكرتي التي مسها العطب. أشباح الرسامين تترفق بي وتخف إليَّ حين أهوي في أرض موحشة وأنا أرى بلادي تغيب.

واحد منهم يكفي لكي تحضر بلاد الياسمين.

قبل ربع قرن كنت أمشي مع رضا بالطيب يدا بيد على شاطئ المتوسط في بلدة المحرس التي صنع ابنها يوسف الرقيق اسطورتها. كان بالطيب يحدثني بشعف عن الشواطئ كما لو أننا لم نكن نمشي في محاذاة البحر. أنظر إلى عينيه وكنت أظن أنه قد أغمضهما فأراه ينظر إلى الرمل. يقول: "يمتعني الهدير وحده". حين أنظر إلى لوحاته اليوم، أعرف أنه كان مولعا برسم الأصوات. أنصت إلى موسيقى رسومه لأدرك ما الذي كان يفعله صديقي يوم كان يحدثني من غير أن يرفع نظره إلى البحر. كانت الأصوات تصل إليه باعتبارها كائناته المستقبلية. مفردات الرجل الوحيد في غربته.

لقد استعدت نزهاتنا البحرية وأنا اتنقل بين رسومه في "صدر بعل"، النزل الذي يمكن أن يعدّه المرء أكبر متحف فني على الأراضي التونسية.  

الكلمات الدالة

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم