الجمعة - 26 نيسان 2024

إعلان

هل أصبح الصحافيون والمحررون عمال فولاذ القرن الحادي والعشرين؟\r\n

المصدر: روبرت ج. سامويلسون - "الواشنطن بوست" - كاتب عمود خاص حول الاقتصاد
ترجمة نسرين ناضر
A+ A-

عندما كنت مراسلاً شاباً في السبعينات، كُلِّفت بتغطية أخبار صناعة الفولاذ الأميركية المضطربة التي كانت تتخبّط جراء تأثير التكنولوجيات الجديدة (التي عُرِفت بـ"المصانع المصغّرة")، والواردات الرخيصة، وقواعد العمل النقابي التي مرّ عليها الزمن. وقد خسر آلاف عمّال الفولاذ وظائفهم. كانت صناعة الفولاذ تُعتبَر آنذاك العمود الفقري لاقتصاد متقدّم. وكانت ترمز إلى قوّة الدولة ومكانتها التكنولوجية. لم يتوقّع عمّال المصانع على الإطلاق أن تصاب صناعة الفولاذ الأميركية بالهشاشة، كما أنهم لم يستطيعوا، من نواحٍ عدّة، فهم ما جرى. لم أتخيّل آنذاك - ولا أحد تخيّل على ما أظنّ - أن المراسلين والمحرّرين في الصحف سيلقون في القرن الحادي والعشرين مصير عمّال الفولاذ.


التغييرات التكنولوجية


تجتاحنا التغييرات التكنولوجية التي نعجز عن السيطرة عليها. يخفت بريق الصحف بعدما كانت مؤسسات اجتماعية واقتصادية وسياسية كبرى. والدليل الأحدث على ذلك بيع صحيفة "الواشنطن بوست" المملوكة من عائلة غراهام منذ عام 1933، بصورة مفاجئة، إلى جيف بيزوس، مؤسّس موقع "أمازون" الإلكتروني، مقابل 250 مليون دولار أميركي. المكانة والهيبة والسلطة تنتقل من المالك القديم إلى المالك الجديد. والصحف تلقى مصير صناعة الفولاذ وسقوطها عن عرش الصدارة.
ليس الأمر سراً. تحوّلت غرف الأخبار مقابر وظيفية. فالوظائف التي بلغت الذروة مع حوالى 60 ألف وظيفة في قطاع الصحف، تراجعت إلى أقل من 40 ألف وتستمرّ في التراجع، بحسب "مركز بيو للأبحاث". وفي الآونة الأخيرة، أعلنت كل من صحيفة "كليفلاند بلاين ديلر" و"أوريغونيان" و"شيكاغو صان تايمز" عن تسريح عدد من موظّفيها. لقد تحوّل جمهورنا والجهات المعلِنة نحو الشبكة الإلكترونية، أو تركونا بكل بساطة. تراجعت عائدات الصحف من الإعلانات الورقية من 44.9 مليار دولار عام 2003 إلى 18.9 مليار دولار عام 2012، بحسب مركز "بيو". ولم تسدّ عائدات المواقع الإلكترونية الثغرة. فقد بلغت 3.4 مليارات دولار عام 2012، بزيادة ثلاثة أضعاف تقريباً عن قيمتها عام 2003.


خسائر "الواشنطن بوست"


كنت أراقب بقلق فيما كانت صحيفة "الواشنطن بوست" تعكس هذه الاتّجاهات. عندما تتكبّد الصحيفة خسائر سنوية طائلة ومستمرّة في عائدات الإعلانات الورقية والتوزيع اليومي (تراجعت بنسبة 14 في المئة و8 في المئة على التوالي عام 2012)، لا يمكنها أن تحافظ على استمراريتها. مع ذلك، صدر الحكم أسرع من المتوقّع. عندما أرسل لي أحدهم بالبريد الإلكتروني نبأ بيع الصحيفة إلى بيزوس، كان رد فعلي الأول أنها مجرد خدعة. لم أصدّق أن دون غراهام الذي يؤمن بشدّة بأهمية الصحافة المستقلّة والذي تجمعني به صداقة (عن طريق الصدفة) منذ أيام الجامعة، يمكن أن يبيع صحيفته. فهو من المتمسّكين بتعزيز "الواشنطن بوست" وحمايتها.
ولعل في تفكيري هذا شيئاً من الأنانية كوني أكتب في "الواشنطن بوست". فقد بدأت مراسلاً في الصحيفة عام 1969. وأكتب عموداً خاصاً فيها منذ عام 1977، مع العلم بأنني كنت أعمل في مجلات لا سيما "نيوزويك". عدت إلى غرفة الأخبار في "الواشنطن بوست" عام 2011 بعدما قامت شركة "البوست" ببيع مجلة "نيوزويك". في ظل أسرة غراهام، الصحافة أكثر من وظيفة؛ إنها رسالة في قول الحقيقة. لا شك في أن هذا الشعور ينمّ عن غرور واعتداد بالنفس. لكنه حقيقي ويتعرّض الآن للتهديد.
أقرّ بأنني قديم الطراز. أملك ثلاث آلات كاتبة في المنزل، بانتظار انهيار الإنترنت الذي سأحتفل به. أكره الإنترنت، وليس فقط لأنه يتسبّب بالقضاء على الصحف. فكما كتبت سابقاً، يولّد هشاشات اجتماعية (هجمات سبرانية على البنى التحتية الأساسية، واقتحام الشركات أو الحكومات لخصوصيات الأشخاص) قد تتفوّق على منافعه التي أجد أن عدداً كبيراً منها - مثل التغريد! - تافه. سأل مركز "بيو" في استطلاعاته، المجيبين عن المصدر الذي استقوا منه الأنباء في اليوم السابق. فأجاب 39 في المئة أنهم استقوها من الإنترت، بما في ذلك شبكات التواصل الاجتماعي، في الإستطلاع الذي أجري عام 2012، بزيادة كبيرة عن نسبة الـ24 في المئة التي سُجِّلت عام 2004. في حين أجاب 29 في المئة فقط أنهم استقوها من الصحف عام 2012، بعدما كانت النسبة 47 في المئة عام 2000.


الأخبار غير مجانية


انطلاقاً من هذه الأرقام والنزعات، تتّجه الصحف الورقية، التي لا تزال المصدر الأساسي للعائدات في صناعة الصحف، نحو سلة مهملات التاريخ، أو نحو التحوّل منتجاً حصرياً يُوزَّع على نطاق ضيّق. قدّرت مجلة "فوربس" ثروة بيزوس الصافية بـ25 مليار دولار. يقول غراهام إن بيزوس هو الشخص الوحيد الذي يملك المال والصبر والقدرة التكنولوجية ويقدّر جيداً أهمية الصحف، بما يخوّله قيادة "الواشنطن بوست" من ماضيها العريق إلى مستقبل ناجح. أعترف بأن هذه الحجّة بدت لي ضعيفة في البداية، إلى أن اتصل بي ابني البالغ من العمر 26 عاماً ليسألني عن وقع الخبر علي. لقد شاركني التحسّر، لكن رسالته لي كانت: قد يكون هذا جيداً للواشنطن بوست.
طوال سنوات، تمتّعت صحيفة "الواشنطن بوست" بشبه احتكار للقرّاء والمعلنين الذين وقعوا في أسرها. أما الآن فتواجه منافسة داروينية شديدة من الإنترنت. فالنصوص وأشرطة الفيديو تحتوي على سَيْل من الأنباء والمعلومات والتحاليل والحملات والكوميديا والانتقاد. ثمة الكثير من المواد المعروضة على الجمهور لقراءتها، لكن النوعية متفاوتة، وغير موثوقة في معظم الأحيان. تسعى الصحافة الجيدة، ولو لم تكن مثالية، إلى دحض المعلومات المضلّلة ونصف الحقائق. وتساهم الصحف، على غرار "الواشنطن بوست"، في قيام مجتمع حر عبر إعداد التقارير الباهظة الكلفة التي لا يكتبها الآخرون، والتي تطلعنا على هويتنا الحقيقية.
لكنها ليست مجانية. فهي تستند إلى الاستقلال التحريري - القدرة على متابعة الأخبار والكتابة عنها حتى لو لم تكن ملائمة - والنجاح التجاري. على أحدهم أن يدفع الفواتير. يقع على عاتق بيزوس احترام الاستقلال التحريري وإعادة بناء قاعدته الاقتصادية. لقد تحدّى المشكّكين من قبل. وقد ينجح في ذلك من جديد. بالتوفيق.

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم