الجمعة - 26 نيسان 2024

إعلان

موسكو وواشنطن تتصارعان على ... "فأر يزمجر"

جورج عيسى
موسكو وواشنطن تتصارعان على ... "فأر يزمجر"
موسكو وواشنطن تتصارعان على ... "فأر يزمجر"
A+ A-


نسبة إلى تهجّم ترامب على الحلف خلال حملته الانتخابية، تعدّ هذه الخطوة "انقلاباً نوعيّاً" على مواقفه السابقة في هذا الشأن. لكنّ هذا الانقلاب، إذا جاز التعبير، كان مقدّمة لخطوة أخرى تؤكّد اعتماد البيت الأبيض سياسة جديدة مختلفة كلياً عن شعارات ترامب إبّان حملته. فبعد يومين على تلك المصادقة، أعلن الأخير أنّ الحلف لم يعد منظّمة "معفيّاً عليها من الزمن" إثر لقائه الأمين العام للحلف ينس ستولتنبرغ. لكن على الرغم من كلّ هذه الضجّة، ما الذي يمكن أن تقدّمه جمهوريّة صغيرة حديثة العهد كإضافة إيجابيّة إلى الناتو؟   

إنّ هذا السؤال قد يضيء عليه نقيضه أيضاً. "ما السلبيّة التي يمكن أن تصيب بها جمهوريّة صغيرة دولة عظيمة كروسيا إذا انضمّت للحلف؟". إذاً يُحتمل أن يكمن الواقع ليس في حداثة عهد تلك الجمهوريّة أو في مساحتها، بل في حيثيّات أخرى. ففي النهاية، لا يمكن لدولة استقلّت سنة 2006 بعدد سكّان لا يصل إلى 700 ألف وبمساحة أقل من 14 ألف كيلومتر مربّع أن تحدث فرقاً كبيراً، إلّا بالنظر إلى عوامل جيوسياسيّة أخرى:



أوّلاً، لا بدّ من الإشارة إلى الظروف التي وافق فيها الرئيس الأميركي، بعد مجلس الشيوخ، على انضمام مونتينيغرو إلى الناتو. هذا يعني أنّ ما حدث جزء من مشهد "متشدّد" (أو "عدائي" كما تراه موسكو) ضدّ المصالح الروسيّة. فتشكيل مجلس جديد للأمن القومي ذي نظرة صارمة إلى روسيا، تلته ضربة عسكريّة على مطار الشعيرات، مع حديث أميركي عن تغيير نظام الأسد، وصولاً إلى نشر قوات إضافيّة للناتو شرق أوروبا ... مشهد يعني عودة "حرب باردة مصغّرة" إلى العالم. حرب باردة سئلت عنها موسكو أيضاً كما سيتبيّن في النقطة التالية. 

حين كان العالم منشغلاً بالانتخابات الأميركيّة، وفي اتهام روسيا بالتدخّل فيها وتحويل نتائجها لصالحها، بدا الروس (أو على أقل تقدير أنصارهم في أوروبا) هادئين، لكن ناشطين في أمكنة أخرى، من بينها مونتينيغرو نفسها. إذ اتّهم المدّعي العام لشؤون الجريمة المنظّمة في الجمهوريّة ميليفوي كاتنيتش، مجموعة من القوميّين الروس، بمحاولة "اغتيال رئيس وزراء البلاد (حينها) ميلو ديوكانوفيتش والتخطيط لمحاولة انقلاب". ووجه المدّعي العام تهمة إلى مدبّري المؤامرة بمحاولة اقتحام البرلمان وتعيين حكومة موالية لموسكو. العمليّة التي رصدت استخدام "قنّاص محترف" بحسب التحقيقات قال حيالها كاتنيتش أنّه "ليس لدينا أي دليل على تورّط روسيا بأي شكل من الأشكال" لكن "لدينا دليل على تورّط روس في التخطيط لهذه المؤامرة".



وقضت الخطّة بحسب المدّعي العام بأن يهاجم حوالي 20 صربيّاً ومونتينيغريّاً بزيّ الشرطة الرسمي مظاهرة قرب البرلمان يوم 16 تشرين الأوّل الماضي ثمّ اقتحام المبنى واغتيال رئيس الوزراء. وقال مسؤولون أميركيّون ل "الدايلي بيست" أنّ العمليّة تحمل "كلّ دمغات" مشروع الكرملين لإخضاع البلاد، بدءاً بتمويل الأحزاب الروسيّة المعارضة وصولاً إلى تورّط قائد وحدة صربيّة خاصّة ومقاتلين صربيّين اِنفصاليّين في شرق أوكرانيا بالمحاولة. ويذكر الموقع أنّ رئيس الوزراء الصربي لمّح إلى تورّط "دولة ثالثة" في محاولة الاغتيال، يكتب عنها الصحافي مايكل ويس: "بإمكانكم على الأرجح تخمين أي دولة يفكّر فيها". وقوبلت هذه الاتهامات برفض كامل من روسيا.

من جهة ثالثة، تلفت الصحافيّة ميشا سافيتش النظر، في موقع قناة "بلومبيرغ" الأميركيّة إلى أنّ دخول مونتينيغرو في نادي الناتو يجسّد "تغييراً طويل الأمد في الولاءات الجيوسياسيّة للجمهورية" التي "شاركت تاريخيّاً بروابط دينيّة وثقافيّة مع روسيا". ولا جدال في صحّة وتاريخيّة هذه الروابط التي يمكن أن تضاف العلاقات السياسيّة أيضاً إلى فلكها. لكنّ الحكومة الموالية للغرب لا تقيم لتلك السمات الوزن الأوّل، بقدر ما تجد في "التطوّر الاقتصادي" مصدراً أساسيّاً للتطلّع إلى المستقبل. فوزير الدفاع المونتينيغري بريدراغ بوسكوفيتش وصف أعضاء الناتو الثمانية والعشرين الثلاثاء الماضي بال "أكثر تطوّراً اقتصاديّاً" وال "حضارات الأكثر تقدّماً"، لذلك إنّ الانضمام إلى الناتو هو "خطوة ضرورية" بالنسبة إليه. وتنقل سافيتش عن بوسكوفيتش قوله إنّ وزارته تحاول مواجهة "الهجمات السيبيريّة على قاعدة يوميّة ضدّ مؤسسات الدولة" وضدّ حواسيب ضبّاط عسكريّين تضمّ بيانات سرّيّة.

طبعاً لا يأخذ التوتّر بين البلدين شكلاً أمنيّاً أو سيبيريّاً وحسب، بل يشمل أيضاً المستوى التجاري. وهذا الأمر يحصل، حتى بتفاصيله الصغيرة التي تشبه امتناع الروس منذ أيّام عن استيراد النبيذ المونتينيغري، لأسباب "صحية" كما قالت موسكو. أمّا رئيس الوزراء الحالي دوسكو ماركوفيتش فاعتبرها رسالة تأتي "بشكل واضح في إطار عضويّة الناتو".

مسألة إضافيّة أخرى توضحها روسيا بشكل حاسم. فهي تفصل فصلاً تامّاً بين الأهمية العسكريّة للجمهوريّة ومسألة انضمامها إلى الحلف. "القوّة العسكريّة لبودغوريتشا (العاصمة) مساوية لصفر (2000 جندي)" قال وزير الدفاع الروسي سيرغي شويغو يوم الأربعاء مضيفاً أنّ الناتو مستمرّ في إسقاط قواه قرب الحدود الروسيّة. إذاً ما يقلق الروس هو "قرب" النفوذ الغربي من حدودهم، وهذا يبيّن أنّ المسافة الفاصلة بين الدولتين تقاس، إضافة إلى المعيار الجغرافيّ، بالمعيار الاستراتيجيّ أيضاً. وهو ما أوضحه شويغو نفسه: "إنّ موقعها (مونتينيغرو) الجغرافي يسمح للناتو بتعزيز سيطرة الحلف على البلقان".



وعلى الرغم من ترحيب العديد من الباحثين الأميركيّين بفكرة توسيع الناتو، لا يبدي المساعد الخاص الأسبق للرئيس الأميركي رونالد ريغان، دوغ باندو، أيّ حماس بضمّ مونتينيغرو إلى الحلف. فهو كتب في مؤسسة الرأي الأميركيّة "ذا ناشونال إنترست" مقالاً أظهر فيه أنّ "سلبيّات" انضمام تلك الدولة إلى الحلف أكثر بكثير من إيجابيّاته. وهو يرى أنّ الجبل الأسود لا يشكّل قوة عسكريّة مهمّة، كما أنّ عدّة معايير ديموقراطيّة غير محترمة داخل الجمهوريّة. كذلك، أمكن لواشنطن أن تنفق المزيد من الأموال على تعزيز القوّة العسكريّة للناتو بدلاً من صرفها على بناء دولة صغيرة مثل الجبل الأسود، يضيف الباحث. أمّا بالنسبة إلى إمكانية الاستفادة منها كدولة تساهم في تعزيز التكامل السياسي الغربي، فيمكن لمونتينيغرو أن تعمل على مراعاة المواصفات المطلوبة كي تنضمّ للاتحاد الأوروبي لا للناتو بحسب رأيه.

عندما يستمع إلى إيجابيّات انضمام الجبل الأسود إلى الحلف الأطلسي يتذكّر باندو الرواية الساخرة للكاتب الإيرلندي الأميركي ليونارد ويبيرلي تحت عنوان "الفأر الذي زأر" (1955). تتحدّث الرواية باختصار عن دولة خياليّة فائقة الصغر في أوروبا (دوقيّة غراند فنويك مساحتها 34 كيلومتراً مربعاً) قررت أن تحتلّ الولايات المتحدة بالقوس والنشّاب، بسبب إعلان واشنطن تصنيعها لنبيذ أميركي فاخر يحمل اسماً مشابهاً للدولة: نبيذ "غراند إنويك". ومع أنّ الدولة توقعت هزيمة جيشها إلا أن جنودها عثروا في نيويورك بالصدفة على سلاح أميركي فتّاك تمكّنوا عبره من إخضاع واشنطن. من هنا، يرى باندو أنّ انضمام مونتينيغرو إلى الناتو يجب أن يكون عنواناً لرواية ساخرة أخرى. فقدرتها على مساعدة الحلف في أي هجوم روسي تتطلّب "ضربة الحظّ نفسها" التي لقيها جيش غراند فنويك، كما يكتب.

لكن ما وجب التشديد عليه في هذا السياق، أنّ لموسكو أيضاً اهتماماً بالغاً بذلك "الفأر". ربّما لأنّ صنّاع القرار ينظرون إلى جيو-استراتيجيا الدول أبعد من مجرّد كونها "فئراناً". أكانت تلك النظرة صحيحة أم لا، فهذا حديث آخر.







الكلمات الدالة

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم