الجمعة - 26 نيسان 2024

إعلان

"حبّة الخلاص" لجنان خشّوف: رحلة النفس الإنسانية في بحثها عن إكسير الخلاص

د. عصام الحوراني
"حبّة الخلاص" لجنان خشّوف: رحلة النفس الإنسانية في بحثها عن إكسير الخلاص
"حبّة الخلاص" لجنان خشّوف: رحلة النفس الإنسانية في بحثها عن إكسير الخلاص
A+ A-

الخلاص هو التحرّر والانعتاق من المعاناة، هذه المعاناة المتقوقعة والقابعة بصمتٍ في حنايا النفس البشريّة. تنطلق هذه المعاناة في رواية "حبة الخلاص" من خلال صراع أليم بين ثلاث شقيقات شقيّات يتمظهر بـ "الهُوَ" الغرائزيّة الجامحة المشتهية أبدًا، والأنا المتعقلنة، والأنا الأعلى المحافظة صاحبة المبادئ الخلقيّة... وهكذا تدور المعارك بين الأخوات ولا تنتهي أبدًا، وتتولّد عنها الوحدة القاتلة التي تتبدّى على لسان ريم وهي تصرخ لاهثة: "أنا بحاجةٍ إلى أن أعرف لماذا أنا بهذه الوحدة"؟ (ص 71)، والوحدة تجرّ وراءها مواكب من الكآبة والاكتئاب، والتردّد، والازدواجيّة، والرّفض، والحبّ المضطرب الذي يتلاشى مع "زوال تأثير رائحة ممحاتهما..."! ويتماهى ذلك الصراع العنيد في أعمق أعماق ريم، وفي نفس كلّ فتاة وفتىً... يتماهى جنونًا وثورة على المجتمع وتقاليده ومعتقداته تلك التي بدل أن تطفئ النار تؤجّجها أكثر فأكثر لتحرق النفس بلهيبها المدمِّر. 

"حبّة الخلاص" الرواية المميّزة الصّادرة عن منتدى المعارف هي حبّة موقّتة، فما تكاد تطفئ لهيبًا حتى يعود الجمر الغافي فيشتعل في جوف النفس من جديد. قد تساعد حبّة الخلاص ريما لفترات من الركود والسلام الآنيّ بين الشقيقات الثلاث، ولكنّ ذلك لا يطول فنسمع ريما تناجي ذاتها المثقلة بهموم الحياة ومتاعبها: "لِمَ يا قلبيَ الأحمق لا تصدِّق كلام الحبّ؟ لِمَ لا تقع في الحبّ؟ لماذا أصبحت الصداقاتُ بهذا الثقل"؟ (ص44)
.

مرور السحاب

جنان خشّوف في "حبّة الخلاص"، تروي المرأة اللبنانية والعربيّة منذ سنواتها الأولى التي تتكرّر في كالين وتالين ولكن بشكل آخر، هي صوت صارخ في برّيّة تعصف بها عادات وتقاليد مجتمع متجمّد يابس. بطلتها ريم التي تحاكي بنات عصر العولمة، هي لسان حال الفتيات في بلاد تتلوّن بالتمييز الصّادم أبدًا في الممارسات، في الثياب، في التخصّص، في العمل، في القانون. تهمس ريم في قرارة نفسها:" ... ولكنّني لا أفهم كيف نشارك نحن النساء شخصيًّا بالتمييز... لن أتحدّث عن ظلم الممارسات باسم الدين والعرف... التمييز ليس في الممارسات فحسب، بل يتعدّاه إلى المفاهيم...". (ص 122 -123). ريم تنطق باسمهنّ من قيعان النفس منذ أن كانت طفلة بعمر ابنتها تالين، مرورًا بمراحل متنوّعة في خلال زمن ليس بالطويل، فالساعات والأيّام والسنون تمرّ مرّ السحاب، لتترك وراءها بصمات مختلفة في السلوك والتصرّف والطباع والأخلاق والإيمان والعبث والعِقد والأزمات النفسيّة. والحلّ السريع هو الرائج في عصر التوترات والأزمات النفسيّة والقلق المرير، الانقباض اللعين، والقهر والاكتئابات المضنية الباعثة على اليأس حتّى الانتحار أحيانًا. هذه العوارض المتنوِّعة والمشاعر المضطربة تخفق في صدور كثيرات وكثيرين من الشابات والشبّان في كلّ مكان. والعلاج السريع هو حبّة من العقاقير المختلفة المهدّئة لوقت معيّن، على الرغم من مفاعيلها الرجعيّة وتأثيراتها الجانبيّة في النفس والجسد... وهكذا يُمكن أن تستبدل حبّة الدواء هذه بالتدخين وبحشيشة الكيف والهيرويين والأفيون وبكأس من الخمر "تفرُق بين الروح والجسد" كما قال سيّد الشراب أبو نواس. فحبّة الخلاص عند النواسيّ هي الكأس التي تنحدر في حلق شاربها "فلا خير في اللّذات من دونها سترُ"، هذه الصفراء التي "لا تنزلُ الأحزانُ ساحتَها... لو مسّها حجرٌ مسّته سرّاءُ".

مطبّات المراحل

تمضي ريم، إذاً، في "حبّة الخلاص" قافزةً من مرحلة في الحياة لتقع في مطبّات مرحلة أخرى، فلا سكينة ولا سلام ولا هدوء. إنّها حياة كلّ فتاة، تمرّ في تجارب مختلفة، تنجح وتخفق، تحبّ وتكره، تقترب وتبتعد "فأمّي هي أقرب من في الوجود إليَّ، وأبعدهم" (ص11). هي كتلة من التناقضات يجتاحها القلق والتردّد والازدواجيّة والطموح الذي بلا حدود، فتقع في مستنقع الوحدة: "فأنا أخاف الوحدة، وأعيشها بشكل مستديم... فأجدني وحيدة فيما أشاهد التلفاز في أحضان علاء، أو حتّى أكثر قليلًا...!". وحبّة الخلاص لديها كان مالك "بحيث كان مسيطرًا بشكل كبير على عوارض الوحدة... يُدرك ما أشعر به بالتحديد، وبهذا يُلغي كوني وحيدة"(ص87 – 88). وترى ريم "أنّ سموم الوحدة أشدّ فتكًا في الإسراف..." (ص 103)، هذه الوحدة تجعلها تسرف في التبديل والتغيير ولا تبقى على حالة واحدة، وتتساءل ريم في أعماقها: "لماذا تحوّلت حياتي إلى أضواءٍ مجنونة يتحكّم بها طفلٌ يهوى العبث. فما إن يسلِّط الضوء على رجل وألاحظه وأبدأ بإعجابي به، حتّى ينطفئ الضوء على إعجابي بشكلٍ غامض، وفجأة. ليبدأ الضوءُ مجدَّدًا في زاوية أخرى من الغرفة وتكرارًا...". مَن هو هذا الطفل الذي يتحكّم بريم المسكينة؟ لعلّه شيطانها الأزرق الصغير المدلّل القابع في حجرة "الهُوَ" يتربّص بصاحبته ريم ليُسلّيها في سويعاتها السوداء "فيقوم بألعابٍ خفيّة، لإحراجي ربّما" (ص20). هذا الشيطان الصغير الأزرق يتجسّد أحيانًا في مالك الذي يتراءى لها في أحلام اليقظة، مالك صديق طفولتها منذ زمنها الأبعد... تراه في "الواتس أب" بينما كانت تتفحّص هاتفها، فتصرخ به: "لِمَ ظهرت الآن؟ إرحلْ عن أحلام اليقظة، تبًّا لك، مع مَن تستخدم الواتس آب في عمق الليل"؟ وتتساقط الأفكار من عمق اللاوعي فإذا هي حيال مشهد فيه حبّة الخلاص من دون أن تدري.  

التحرّش

هذه الإرهاصات المتتالية التي تنتج منها الوحدة والانطوائيّة والرفض والطموح الذي بلا حدود وغير عاديّ، تبعث جميعها على التأمّل الفلسفيّ النفسيّ الممزوج بالتعابير الأدبيّة الجميلة، وقد بدا ذلك جلياً في صفحات الكتاب، فتقرأ تأمّلات فلسفيّة في الحبّ وفي الزواج وفي الدين وفي المجتمع وفي الشخصيّات البشريّة كما في الحياة. تتساقط الإرهاصات النفسيّة بالتداعي الحرّ، من خلال فلتات اللسان، من خلال أحلام اليقظة والأحلام كلّها... ريم تتذكّر وتنطق في سرّها كيف أنّها تعرّضت للتحرّش يوم كانت في الصفّ الرابع المتوسّط، ويوم كانت برفقة والدها في رحلة إلى تركيا بالباص.

أمّا الحبّ، فإنّ لريم فلسفة خاصّة به. تحبّ في كلّ شخص جانبًا معيَّنًا، "وبعد أن تمرجحتُ صعودًا ونزولًا ليس في المزاج فحسب، بل في حلّ شيفرة إعجابي السرّيّ المتقلِّب! فقط أعجبني شيء محدَّد في كلّ شخص، ولم يعجبني لدرجة أن لا يُعجبني شخص ثانٍ وثالث ورابع وثامن عشر" (ص 42).

جنان خشّوف ترتاد النفس الإنسانيّة بفنّيّة فيها مهارة فائقة وعفويّة محبّبة تبعث في نفس القارئ الشوق الكبير لأن يتابع القراءة بمحبّة زائدة وشغف مستمرّ، إذ تتفرّد بأسلوب في اختيار الجمل والمصطلحات القريبة من أذواق جيل معاصر، تتحدّث مع بنات عصرها وشبّانه بلغة صافية مميّزة ملائمة لمقتضى العصر، فيها طراوة وحلاوة وعفويّة وشاعريّة رائقة من مثال: "وكيف يهجر حوّاء بانحناءاتها، طفلة مغامرة تعشق الوحول والبراري، جسدًا يسهى، وعشقًا يهيم في الأزقّة العتيقة بحثًا عن قصص ضائعة" (ص65). فهذه الاستعارات الرقيقة مع جسد يسهى وعشقٍ يهيم، تترقّى بالعمل الفنّيّ صعدًا نحو جماليّات فيها الضياء والإشراق الدائم. ونسمعها تردِّد أيضًا: "إعصارٌ قد امتصّني إلى فراغٍ وحيد". (ص 66). ولا ننسى التوصيف، فلدى الكاتبة فنيّة مميّزة تخترق بها النماذج البشريّة بدقّة وببراعة فائقة.

الكلمات الدالة

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم