الجمعة - 26 نيسان 2024

إعلان

مقارنة الشرور ومفاضلة الأشرار

المصدر: "النهار"
مسعود عكو
مقارنة الشرور ومفاضلة الأشرار
مقارنة الشرور ومفاضلة الأشرار
A+ A-

لم تترك الثورة/الحرب السورية أية قيمة بشرية إلا قامت بتغييرها وفق منهج الحق والباطل، والقوي والضعيف. الحرب التي تجاوزت عامها السادس غيرت كل إرث بشري، تناقلته الأجيال السورية منذ الإله بعل إلى يومنا هذا. فلم يحطم أي واحدٍ سيفه، ولم يتناول معوله، ولم يزرع السلام والمحبة في كبد الأرض، بل ظل حاملاً سيفه في وجه الآخر، وكلاهما مقتول لا محالة. 

لا يختلف اثنان (إلا مؤيدو النظام) على أن حجم العنف الذي مارسه الأسد ضد خصومه منذ بداية انطلاقة الثورة، هو الذي دفع بالسوري المظلوم إلى مواجهة النظام بالمنطق ذاته. الثورة التي تحولت في ما بعد إلى كفاح عسكري مسلح لتمر بنزاع داخلي أو حرب أهلية/طائفية، ولن تنتهي كما هي اليوم حرباً عالمية ضد الإرهاب المتمثل بتنظيم الدولة الإسلامية "داعش"، و"جبهة النصرة" بكل مسمياتها الجديدة. العنف الذي مارسه النظام منذ اعتقال أطفال درعا، وليس انتهاء بجرائم الحرب الكيميائية والبرميلية، ولّد عنفاً مضاداً لا يختلف قيمة عن ظلم النظام، إذا ما حجبنا قوة السلاح غير الموازية له من جهة المعارضة. المعارضة العسكرية مختلفة التسميات والتوجهات الدينية منها والوطنية، ولو أن الأخيرة أصبحت نادرة مع طغيان العامل المذهبي على كل الصراع، قامت هي أيضاً بممارسة العنف، بيد أن هذا العنف لا يقارن مع ذاك الذي مارسه الأسد مطلقاً.

 

الثورة المفترض أن تحمل قيم الحرية والكرامة والعدالة، وتعيد هذه القيم الإنسانية الى السوري، لم تقدم على أي فعل حقيقي لتترجم أهداف الثورة كقيم بشرية يناضل السوري لاستعادتها، بعدما اغتصبها حزب البعث من خلال آل الأسد الحاكم قرابة نصف قرن. وسرعان ما تحولت الثورة إلى نزاع مسلح بين النظام ومعارضيه الذين تلقوا دعماً مالياً وعسكرياً مباشراً من السعودية وقطر، وإدارة تركية للحرب بإشراف أميركي. الحرب حولت المتقاتلين إلى فريقين يحاول كلاهما إثبات ان الآخر أكثر شراً منه، وليس محاولة تقديم نفسه بديلاً أفضل. الحرب دفعت المتصارعَين الرئيسيين الأسد وخصومه، إلى إبراز أن الآخر يمارس وحشية قذرة فاقت التصورات البشرية، ولكن شره، وتعداد ضحاياه أقل، وكذلك ظلمه أخف.

النخب السياسية السورية المعارضة مارست دوراً ليس بأقل من منظومة الأسد السياسية. هللوا للحرب، وطبلوا للنزاع المسلح منادين الكون لتسليحهم لإسقاط الأسد الأكثر ظلماً من المعارضة. روّجوا للأسد بأنه ظالم جداً وأن العسكرية الثورية أقل ظلماً، عملوا على إظهار المسلحين المعارضين بأنهم أشرار، ولكن بأقل مما يمارسه نظام الأسد من شرور. برروا كثيراً شر الثوار بأنه لا يقارن مع ما تفعله آلة القتل الأسدية، وهو صحيح طبعاً. ولكن كان لا بد لهم من ممارسة دورٍ أفضل مما قاموا به. وضعوا السوريين أمام خيارين لا ثالث لهما، الأسد أكثر شراً، والمعارضة الأقل، من دون أي إدراك لقيمة أخلاقية بأن الثورات تقام من أجل خيار أفضل، وليس من أجل تقديم نموذجٍ أقل ضرراً وشراً مما كان عليه السلف.

كُردياً، قدمت أيضاً الجماعة السياسية الكُردية نموذجاً لا يختلف مطلقاً عما قدمه السوريون الثوار. مارس حزب الاتحاد الديموقراطي ظلماً عبر مؤسسات مختلفة التسميات على الأحزاب الكُردية المناهضة له. قدم نموذجاً كُردياً شريراً ولكن بأقل من شرور الأسد، بل ذهب البعض إلى مقارنة الشرّين فاعتبروا في أمور كثيرة شرور النظام أقل من شرور الكُردي الديموقراطي. أقله غض النظام الطرف عن ممارسات الأحزاب الكُردية نشاطاتها السياسية لعقود، في حين أن حزب الاتحاد الديموقراطي اغتصب الساحة السياسية الكُردية، بعدما فرض سلطانه بقوة السلاح. فلم يدع تلك النخب السياسية تمارس نشاطاتها، بل مارس عليها كل أنواع الاضطهاد البعثي، ولكن بنكهة كردية.

فشلت النخب السورية السياسية والعسكرية المعارضة في إبراز نفسها كبديل أفضل من النظام، بل بررت الظلم كثيراً من باب "مقارنة الشرور ومفاضلة الأشرار". كلامٌ صحيح في مفهوم الظلم، لكنه كارثي من منطلق المقارنة الأخلاقية. أقمتَ بثورة لتكون بديلاً أقل شراً من النظام، أم من أجل الحرية والكرامة والعدالة، وتعيد للسوري ما فقده خلال عقود؟ حطمتَ معولك وحملتَ سيفك، وزرعتَ الحرب والكراهية في كبد سوريا.


حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم