الجمعة - 26 نيسان 2024

إعلان

"حلقة الثريا" - "مجلة شعر": الرغيف والسمكة

شوقي أبي شقرا
"حلقة الثريا" - "مجلة شعر": الرغيف والسمكة
"حلقة الثريا" - "مجلة شعر": الرغيف والسمكة
A+ A-

"حلقة الثريا" هي الموضوع، وهي المأدبة. اليوم الثلثاء 28 آذار 2017، الساعة السادسة مساء، تحتفل جامعة سيدة اللويزة بمرور ستين عاماً على تأسيس "حلقة الثريا" التي اضطلعت بدور تأسيسي عميق في بلورة ما سُمِّي "المدرسة اللبنانية" في الأدب. لمناسبة صدور كتاب "الثريا حلقة وشباب"، تدعو الجامعة أهل الأدب والثقافة في لبنان إلى لقاء يتكلم فيه سهيل مطر، شوقي أبي شقرا، نور سلمان، جورج شامي، ريمون عازار، وإدمون رزق، يتخلله عرض وثائقي ويليه توقيع. "زميلنا" الشاعر الكبير شوقي أبي شقرا كتب للحفلة الكلمة الآتية:


لسنا في الغبار أو في شباك المعمعة ولا نحدب وننحني على قطاف اللؤلؤ وذلك السرمدي من الحجر من الياقوت ومن القصيدة الترابية والتي هو الزمان يحتفل بها وبالذين يروّضون الأحوال والأبيات والحكايات. وكيف نقول ولا نزول عن الأرض وكيف الصراخ وكيف هو الصنديد الذي يطلع ويشرق صنديداً وهو إما بيتنا والدالية العظمى وإما الشجرة شجرة الرحمة والقيلولة والانشراح والامتداد على المقعد الخشن أو الأملس. وإما هو القداسة وذلك القديس ورمحه.
وها نحن تمّ العبور لنا، من قاع تجربة الى عقر تجربة ومن قلم ليس حاذقاً كلّ الحذق الى قلم ينادي مرحباً ويكتب ويكتب وينبطح على الورقة أو يروح عذباً كالمياه وينطق عذباً. وكيف هو ذلك القائل الذي ما عنده الا الصدر وإلا العجز وإلا الافتتاح، أي حين يبدأ ويغادر قافية ليصل الى غيرها، يصل الى حيث المحطة أي هي التي منذ الانطلاق في مشقة الانطلاق، في عزيمة متراخية أو متشددة، وفي قلق الابتكار والحصول على الغرائب، على نقطة الجمال، على خاتم البعد الظريف وعلى الطرفة. وعلى السعادة. وهذه تختبئ في جاذبية الميجانا أو في حرارة الدلعونة. أو في القريحة المتمادية والراقصة على الصمت أو في العكس، هي غزارة وبحبوحة وثراء. والحديث يعقب الحديث والكتابة على غارب الحرية وحيث لا وهن ولا أسئلة تصدّ الموهبة وترميها سراباً في الحقول أو في أثلام الفوضى.
ولكنها موهبة هي تصنع الأحلى ولو جار الذي لديه الانطفاء والجور والظلامة والذي عنده الديجور ولا يبالي. والذي لا يرتضي أن يتراجع وأن ينثر ذلك القمح الخامد في دفء الكوارة أو هو كومة في الصالون، وفي حرص على المونة، على غذاء الفسحات أو غذاء المعرفة. أو غذاء الجياع الى النثر والى الشعر.
ونحن أكثر، ونكتب ونكتب ولو في الخفوت وفي بعض التكاسل، وبعض الخيبة وبعض الانتصار وبعض الحدب على الجدّة، وعلى البريق المزدحم بالشرر والذي يطير من القفص، وإن ضاع المفتاح وإن سقط الانسان في الامتحان. وكان عليه أن يتكاثر وأن ينجب الوردة من العدم ومن حيث يمتد اللهب الى الجيران، والى سائر الناس بين قارئ ولاعب وبين أبيض وأسود وبين بستان وبستان.
ونعمد الى أننا في "حلقة الثريا" رأينا الزهو ولامسناه بالرفق والمروءة وكأنه العصفور لا يفنى ولا يدخل ولا يرتمي على الفراغ. وإنما هو يزغرد في الإطار أو في الخارج حيث اللعبة وحيث المدينة تبحث عن العجب العجاب. وترغب في أن يرتمي الشاعر أو الأديب أو الفنان، في الحومة وفي الوغى. ولا يتعب أحدنا على الشيء اليابس وعلى الحطب النائم والذي في الجوار، أو على العتبة أو على المنبر. بل إن ذلك كلّه عبث يتبعه خواء وعبث. وإن ذلك أحياناً يؤخذ برهاناً على الإبداع أو ميزاناً يقيس ويبارك ويمتحن أهل الهوى وأهل الشغف الذي يقود الى فوق. ويترك الجحيم ويترك المطهر ويترك القفل في الجارور ويمتشق الحسام أو النظرة الفاحصة التي في عادتها أن تخاطب الأصالة، وأن تكون الصداقة جبين النص، ومع الذات ومع التطور على أرجوحته إذ يميد ويهتزّ كلّ عنصر من عساكر الإبداع. وكلّ واحد يطلب العطاء ورداء الكمال على كتفيه. وكلّ واحد على هويناه وعلى النغم وعلى المزمار الذي يطيعه ويذهب سرب المشاوير اليه، الى الغداة والى الصباح ليلتفّ بالزهرة، بالأرزة الصامدة، بالتعب النضر حين يطمح الى العافية وشاحاً يضمّ الأحلام ويحتويها.
وفي "الحلقة" كنا في هموم التأسيس ثمّ كانت الإضمامة والباقة من الذين كلّ مفرد وأي أحد هو الرئيس وسيّد في ذاته وفي موقفه. وتوالت الأيام المفتوحة علينا ورحنا برمّتها صوب المطارح اليتيمة، صوب الضرورة أن نشتغل ونشتغل ونصادف ما هو ثمين ومسمّن وغالٍ ولا سهولة ولا خمر مجاناً في سبيل أي ضعف وأي لون ليس حاداً ومرئياً وحاسماً. كما كان الارتحال صوب المغامرة، وتلك هي العامل الفصل والعلامة أننا أحياء وليس في القبو المغلق على الوجع وحيث الأغراض والإغراءات الصغيرة والمتقاعدة. وإنما قناديلنا نهضت ورحنا بها الى الأمام، الى مجاهل الطليعة وحورية الانجذاب. وكان شأني ظلالاً وجرأة وفي مهبّ الاندفاع الى التغيير في قوام القصيدة وفي أعمدة الحرّية. وهكذا رحلتي شراعُها الأول "حلقة الثريا"، وفي ما بعد نلت ما نلت من قرارة الأمور وسرت نحو التجربة الثانية في "مجلة شعر". ونلت كوني شجاعاً وعلى ديمومتها وانغمست في المياه الغزيرة أو الضحلة وفي أنني جلبت وحملت الى اللغة العربية نكهة الغرابة والصبابة أي الرعشة من كينونتي الملتاعة ومن كنانتي الممتلئة. والأمثولة أن نركض الى المهمة والى الهدف وأن نصادف مَن هم الأصدقاء ونتقارب.
وأربض على مآثري وعلى السنوات وعلى الأيام وعلى الليالي، إذ كنت وكان الرفاق والحماسة وكانوا جميعاً هنا وهناك، والبوح يزاحم النسيان، والهجمة تدفع الاخرى ويرتاح الضوء الذي لنا، ونحن أدرناه وأشرعناه. وهكذا من موسم الى أخيه ومن نقلة الى أختها. ولا وقوف في الانتظار، ولا هدوء حيث تعيش الأسطورة ونسرق الغمامة حتى هي، ونأكل ذيلها أو ننتف فستانها والمتعة في العلن ونمتدح الجودة ونجهر بالحقيقة وبذلك العنف الفني والسلم المتحول. ومن دهشة الى غيرها الى أننا بين الملاك والنقيض، وبين الغفلة واليقظة، وبين الساعة والموعد، وبين مداعبات الكيان وشراهة الجدّ الى الفوز، الى الأرباح. وأن تصمد الأعمال على الطاولة وتكون كأنها تلك الفتاة، تلك الصبية تلك العروس. ولا مَن يأسف إذ لا ننسى ولا نغادر المكان، أي نحن وهي تلك العوامل الجلّى، تلك المشاعر ذات الخصب والارتواء من العاصفة، ومن الشتاء وهو يتدحرج ومن البيّنات الجمّة ومن الفصول المتعاقبة.
وها نحن الألى صمدوا، وبين الخطوة والخطوة فواصل وبشائر كبيرة، وبين الشاعر والزمان، كنت المدى والعصافة والغصن لا ينكسر ويتمايل. وتلك البركة والانتعاش ومسألة الضدّ المتين ومسألة النجاح في الطريق وفي الارتداد الى الوحي القريب والأقرب، وحي لبنان، وحي بلادي. ومن هنا الى ما بعد، كلّ حذافير وطني صارت كأنها حُفظت في الصندوق، في علبة الجواهر وفي الغالي من الأبجدية ومن القصائد التي على أجسادها طابع الصواب المديد، وعطر المراحل من واحدة شائقة الى تالية عليها يقع النسر ويرتع طويلاً ويتغندر ويصدر عنه الصياح الطلق وريشة البقاء.
كذلك أنت القارئ القادم الى السطور ومعك الشفافية، تشعر الشعور الخلاّب بأنك على قرب من الروائح ومن أنك على الدانتيل المخرّم وبساط الرضى وعلى الصخرة العنيدة القائمة وعلى مشحات من صفوف الأزهار، من النبات كالتلامذة، من الأعشاب كالبنات، وهكذا لك الشميم حتى على ورقاتي، حتى في الغياب وفي الانتقال من الجغرافية الى ميدان الكتابة. بل لك الصدارة ولك الأنف الصبور والملحاح للحصول على النعمة وعلى نفاذك الى الحقل الى التراب الى الوادي. ويكون لك أن تمدّ يدك الى الأعناق الى القامات الفوّاحة والى كلّ حيّ من الكائنات. ويكون لك وأنت في الحبر وعبر الكلمات، أن تتخيّل تلك المساحات وأن تخضوضر على إيقاعها، ولو أنك في راحة الكرسيّ، ولو أنك في الانغلاق ولست في الفضاء. وهكذا يتاح لك الشميم في أيّ وقت، شميم الأدب والقبض على الروح، وعلى أن في أرضنا المعطاء، حتى الرائحة تنبع تحت عينيك من أحاديث الكتاب، من الحروف الملهمة.
وعندي في الذهن وفي الحضور خلاصتي وهي ثمار منذ تلك الحقبة البعيدة. وحينئذ نحن الصعود والهمّ وأن نخطف المعنى وأن نسرع الى بركات التأليف والى غمار الأدب المتكامل، والى أننا في الأوان الذي نحياه، نكاد نكون في فئة الفخر، وجوقة الروّاد وفي عزّ الكبرياء وفي الأحاسيس البركانية. ونفخناها وباشرناها وكانت صعبة النور ثمّ ليّنة. وها نحن، أكثر من سوانا، عندنا ما يدعى سخاء وما يدعى أنه الأمل. وما يدل على التوفيق وعلى الصعود الحقّ والجدير بنا، الى أعالي المنصة، الى جنون التلّة. ومن هناك نبدو للجميع أننا نملك البشارة، نملك العيد ومهرجان الألوان والسفر الميمون الى كلّ ناحية. والى الجواب عن ماذا فعلتم؟ وهنا نردّد الأغنية كما يفعل المقتدرون على الحركة، أغنية المأدبة العامرة، أغنية أننا ارتمينا على النهر وعلى البحر وازداد الرغيف والسمكة.
ثمّ لي ولنا تلك المهنة وهي الصحافة وتلك المطية الطويلة في أهداب الثقافة وفي حفنات الأنواع. وما كنت بخيلاً في السياق والانتعاش وفي أنني النحلة والقفير وفي أنني والرفاق والرفيقات نزور ونجتهد ونعتذر باللذة والتحليق ونلقط الواجب وكأنه الرحيق. ونمصّ اللبابة ونهجم بها وبالحب على الناس وعلى القارئ. وكنا السهم يتخطى العتبة في شبه انفراد، في شبه علاقة نادرة بين امرئ وسواه، بين كلمة حميمة وكلمة كأنها امرأة تشتغل وتبرع في القطبة لما هو عار وفي هيبة الصوت وفي مناخ الرقي وجلال الأوبرا.
ويسرّني أنني حكيت ورويت ولم أتوار ولم أمزّق الورقة أو الستارة. وإنني قبعتان، شعر وصحافة، وإنني لبثت نقاءً وبرعماً في الجلوس المتفوّق والعالق في علّيقة البراري ولبثت على حميّا صباي وعلى نظرتي الواضحة والدقيقة الى حيث السياج والى نفحات الأسوار والمرتفعات. وقفزنا من جدار الفتى الى جدار التحدي الى غزارة الجوّ، الى سياجي وحديقتي وطرائفي ورؤاي. والى حيث أبوح مَن أنا وحيث أنا في الطرب أمام أنتم.
والتحية أمام الصديق الأحبّ ادمون رزق، إذ كان الشجاع وكان الأديب ذَا الجبروت في الجمع والتوثيق لتراث في تاريخنا الثقافي، يقوم على صورة حادّة القسمات عن شباب ملهمين.
والتحية لجميع "الثريا" مَن غابوا ومَن حضروا ويحضرون.
والتحية أمام جامعة سيدة اللويزة التي نشرت الكتاب مجلّداً وكشفت عن كنز وعن إرادة وعن صفات هي الكمال وعن دورها الشامل والمستمر وعن رحابه المثقلة بآيات حافلات بأن تكون خالدة. وبالعمل المتقن وتحرير جورج مغامس.

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم