الجمعة - 26 نيسان 2024

إعلان

طرابلس: روابط وثيقة بسوريا وعشق لمصر

طلال خوجة
A+ A-

حين جاء عبد الرحمن خوجة بصديقه عبد الحليم حافظ لحضور افتتاح فيلم "الخطايا" في "الكابيتول" احدى صالات السينما العديدة والمتميزة في طرابلس الستينات، كاد الحفل يتحول تظاهرة، وفي الخمسينات زحفت طرابلس عن بكرة ابيها الى دمشق لاستقبال عبد الناصر، ومع انها فتحت ذراعيها للمنقلبين على حركة القوميين العرب في اعقاب هزيمة 1967 الا انها خرجت دامعة في وداعه.


طرابلس ترتبط بروابط تاريخية بسوريا، الا ان عشق الطرابلسيين لمصر يقارب الاسطورة. لذا شكلت وجهة دائمة لهم للسياحة والدراسة على السواء. حتى ان الازهر شكل وجهة الدراسة الدينية والفقهية قبل انتشار المدارس والمعاهد الدينية في المدينة. ومع ان عبد السلام النابلسي احد ابنائها الذي ارسلته للأزهر غيّر اتجاهه وذهب للتمثيل مع ماري منيب وعبد الحليم، الا انهم افتخروا به كما افتخروا بمشايخهم المنفتحين. ذلك ان الطرابلسيين عشقوا الافلام والمسلسلات المصرية وندر ان تشاهد طرابلسياً لم يتابع مسلسل "ليالي الحلمية" لما له من تعلق بالتاريخ المصري منذ انطلاق حركة التحديث.
العروبة تسري في دمائهم، دفعوا ثمنا باهظاً للاستقلال وخرج منهم من قاد "جيش الانقاذ" مع انهم دفعوا غرم النكبة دون الغنم الذي استحوذت عليه بيروت وبعض الجبل.
عشقوا الثورة الفلسطينية حتى الثمالة وودعوا ابا خالد ليستقبلوا ابا عمار. ومع تراجع اليسار خصوصاً بعد اجتياح 1982 وخروج ابي عمار ومن ثم ظهور "حزب الله" وصعود حركات الاسلام السياسي وظهور "التوحيد" من رحم الصراع السوري – الفلسطيني اصبحت الارض الطرابلسية اكثر استعداداً لتقبل بعض الافكار المتشددة، خصوصا بعد اجتياح المدينة من قبل النظام السوري بواجهة "حزبية علمانية" وارتكاب مجزرة التبانة و"تفخيخ" بعل محسن/ التبانة. ومع ذلك فقد ظل الجسم الرئيسي للمدينة يميل للاعتدال والانفتاح، رغم صعود مجموعات سلفية، غلب على معظمها طابع الدعوة، علماً ان الجماعة الاسلامية ظلت مطبوعة بطابع الاعتدال الاجمالي للمدينة ومتطلعة لدور محدود في اطار اللعبة السياسية اللبنانية المكبلة بالنظام الطائفي.
خرج الطرابلسيون في 14 آذار دعماً للسيادة والحرية، بعد الغاء زعيم سني كبير حاول العبور الى الطوائف الاخرى. وضد نظام فئوي وصلت علاقته بالنظام الايراني الى درجة الالتحاق. وكان مثيراً ان تشكل طرابلس عنصر الموازنة الرئيسي في مواجهة "حزب الله" وحلفائه تحت شعار "لبنان اولا"، فشكل الشمال عموما و"مثلث الغضب السنّي" خصوصاً خزان 14 آذار الرئيسي، ما جعل الاكثرية السنّية تستعيد دوراً مدينياً توحيدياً افتقدته خلال فترة الوصاية.
هكذا أعطت انتفاضة الأرز املاً كبيراً لطرابلس بالعودة الى الخريطة الانمائية ومن الباب اللبناني الذي فتحه على الهواء الطلق زلزال الاغتيال. ولكن سرعان ما بدأ "حزب الله" بعد حرب تموز "بالهجوم المضاد". ما ادى الى زيادة حدة الانقسامات المذهبية، خصوصاً بعد احتلال الوسط ومحاصرة السرايا وحوادث الجامعة العربية وصولا الى اقتحام بيروت في 7 ايار وتداعياتها العنفية في طرابلس، حيث بدأت مجموعات مسلحة، بعضها سلفي، تبرز في مواجهة مسلحي جبل محسن. وقد ادى انهيار "السين سين" واسقاط حكومة الحريري الى وضع اللبنانيين عموماً والطائفة السنية خصوصا على سكة غضب ومرارة سيكون لها تداعيات سلبية على المدينة التي ستشهد اشتباكات وفوضى تصل الى حدود الاستباحة، مع ارتباك في اداء قوى 14 آذار عموماً وتيار المستقبل خصوصاً. حيث سترتفع لغة العنف والمربعات والشقق الأمنية في غياب بسط فعلي لسلطة الدولة، ما يضع الوضع الاقتصادي على حافة الانهيار ويرفع نسبة الفقر والبؤس خصوصاً في مناطق التوتر.
لقد أعادت الانتفاضات العربية الأمل للطرابلسيين، ومع انتقالها الى سوريا اصبحت الانتفاضة في عقر الدار، فنظراً الى شعور المرارة من سيطرة حلفاء سوريا على مقدرات البلد والاحباط في الشارع السني، حاولت قوى اسلامية متشددة ملء بعض الفراغات، خصوصا مع تحول الانتفاضة السورية ثورة مسلحة. ورغم ان المتشددين يشكلون جزءاً صغيراً من نسيج المدينة، الا ان انتشار السلاح اعطاها صورة نمطية، كما ادى انخراط "حزب الله" في حرب النظام السوري الى تأجيج الشعور المذهبي عند الاكثرية الطرابلسية رغم ممانعة المجتمع المدني النشط والمتنوع وتمسك الجميع بمنطق الدولة الذي بدأ يهتز نتيجة الكيل بمكيالين واختراقات "حزب الله" كما بدا في عبرا.
لم يكن متوقعاً ان يؤدي زلزال التغيير الذي ضرب المنطقة الى نتائج سريعة، فقد دامت الثورة الفرنسية عقوداً قبل ان تعطي ثمارها، ومع ذلك فان انخراط الشعوب بطبقاتها وفئاتها المختلفة وتصميمها فاق التصور، خصوصاً انها اول ثورة دون قيادة تاريخية ومظلة فكرية وهذه نعمة ونقمة في آن واحد. لذا لم يكن مفاجئاً ان يقطف الاخوان المسلمون ثمار الثورات من خلال الصناديق، خصوصاً في مجتمعات متدينة وتعاني من الاستبداد والتخلف والفقر والجهل، ورغم وصول الاخوان وحلفائهم الى السلطة خصوصاً في مصر، فقد قلنا انها ليست صحوة اسلامية وتوقعنا لهم الفشل.
ما حدث أخيراً في مصر ذو دلالات، فليس بسيطا ان ينزل ربع الشعب الى الشوارع (ربع الشعب اللبناني نزل سابقا) هاتفين ضد أخْوَنة" الدولة ومرحبين بتدخل الجيش! للخلاص من الاخوان رغم كل المحاذير الهائلة، مع استبعاد محذوري الحرب الاهلية والحكم العسكري المباشر.
ان الديموقراطية اساسها الانفتاح والتنوع، وهي عملية مجتمعية متدرجة ومستمرة وتتطلب النفس الطويل. وما اننا معنيون برصد آثار الحراك المصري الواسع على لبنان عموما وطرابلس خصوصا، إلا أنه لا يمكن الاضاءة عليها الا من خلال رؤية الأثر على مجمل الثورات العربية. ذلك انه فتح كوة واسعة في جدار الوهم بسيطرة الاسلام السياسي على الوعي الشعبي، سواء لقوته الايديولوجية او لقدراته التنظيمية. وهذا الوهم اخترق بعض النخب العربية، كما شكل أساسا لتعاطي الولايات المتحدة، ما جعلها تشجع على استنساخ النموذج التركي وهو ما بدأ يعاني في تركيا نفسها، تماما كما يعاني الاسلام السياسي في نسخته الايرانية، رغم محاولات القمع الواسع اولا والاستيعاب كانتخاب روحاني ثانيا وشد العصب الشيعي في المدي العربي ثالثاً.
ورغم محاولة الاسد الاستفادة من الحدث المصري، فإنه بدا كمن "يرقص في جنازته" ذلك ان الثورات انطلقت في وجه الاستبداد وهو يمثل صورته الأبشع، كما انها في نهاية المطاف ضد الاستبداد الديني، وهو متحالف وربما تابع لنظام الولي الفقيه وان تدثر كباقي الديكتاتوريين بعلمانية ملتبسة. وقد تزيد تعقيدات الواقع الجيوسياسي السوري من آلام المخاض خصوصاً مع ازدياد قوى التطرف السني والشعي، إلا ان الولادة حتمية.
لم يؤدِّ انتخاب محمد مرسي وصعود "الاخوان" الى تقوية الجماعة الاسلامية في لبنان، مع انه ساهم في ارباك الساحة اللبنانية والطرابلسية اساسا، خصوصا ان قوى 14 آذار راهنت على الانتفاضات ووصلتها بانتفاضة الارز التي تفكك بعض عراها. علماً انه أدى، مع تضخم (وتضخيم) الجهاديين في سوريا الى مزيد من الارتباك في أوساط المعارضة والنخب الليبرالية في سوريا وخارجها، مع تزايد الانقسامات المذهبية والإتنية وتردد أو تواطؤ الولايات المتحدة.
في 30 يونيو تسمر معظم الطرابلسيين امام الفضائيات لمشاهدة مسلسل الحشود الهادرة في الميادين المصرية وكأنه فصل من "ليالي الحلمية"، علما ان النخب المنكفئة بدت اكثر التصاقا بالحدث ويمكن رصد ما يأتي:
أ) تحول الحراك المصري وآثاره على الربيع العربي واستطرادا على طرابلس القلقة والمتحفزة وجبة رئيسية على موائد النخب الواسعة في مقاهي ومنتديات المدينة.
ب) تناول الصحف المحلية ووسائل التواصل الاجتماعي الحدث على انه يصب في تصحيح مسار الثورات وانعكاسه على الواقع السوري وبالتالي الطرابلسي.
ج) اعادة طرح "الربيع العربي" كموضوع رئيسي في لقاءات قوى المجتمع المدني والتي رغم قلة حيلتها، فانها حجزت مكانا في المشهد الطرابلسي. وقد لمسنا مرونة في المساحات المشتركة بعد ان شهدت المدينة توترات مع الجيش عقب احداث عبرا والتباساتها.
د – مسحة الامل الظاهرة على قوى 14 آذار وتيار المستقبل الذي بدأ يشعر بنفس اقوى في المدينة، علما ان موقف قوى 8 آذار بدا مرتبكا، خصوصا انه ملتحق بالنسخة الايراية من الاسلام السياسي، وقد كان معبرا ان تنطلق السهام ضد "حركة 30 يونيو" من المنصات التركية والايرانية في آن واحد.
إلا أن سرعة تثمير هذه التحولات مرتبطة بصلابة الوضع المصري على اساس الانفتاح والمصالحة وبالتالي بصلابة الموقف العربي وتأثيره على المجتمع الدولي.
واذا كان لنا ان ننهي، فإن طرابلس محكومة بالأمل، ولعله يظهر في عودة نمط الحياة الرمضانية الطرابلسية بشقيها الروحي والجسدي الى المساجد والمطاعم والمقاهي، حتى ان مقهى موسى التراثي في باب الرمل نفض عنه غبار الاحباط وعاد يضج ليلا برواده وخصص ليلتين طويلتين لاقامة نشاطات تراثية وفنية متعاونا مع المجتمع المدني وUSAID لإبراز ثقافة الفرح والامل في مواجهة ثقافة البؤس والاحباط.


استاذ في الجامعة اللبنانية

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم