السبت - 27 نيسان 2024

إعلان

رنا وجميل: قصّة الحُب القادِمة من مَكان ما هُناك!

المصدر: "النهار"
هنادي الديري
هنادي الديري https://twitter.com/Hanadieldiri
رنا وجميل: قصّة الحُب القادِمة من مَكان ما هُناك!
رنا وجميل: قصّة الحُب القادِمة من مَكان ما هُناك!
A+ A-

لا تَعرِف "رنا" إن كان ما يَقوم به "جميل" هو رَسم حَقيقيّ، "أو مُجرّد تفريغ لطاقته على الوَرَق، من خلال الألوان، أساعده فيه، فَتَظهَر هذه الأشكال البَديعة". ولكن الأكيد أنها تمكّنت من اختراق عالَمه الصامِت، كما تَزوره باستمرار، هُناك، حيث الأحلام البَعيدة تَلهو مع سوء التَفاهُم "الّلذيذ" مع الواقِع الباهِت الّلون.
الآخرون ربما اعتَقَدوا أن "جميل"، هذا الفَتى الذي يَنتَمي إلى السُكون، غير مُدرِك للعالَم الخارجيّ، بيد أن "رنا" تَعرِفُ جيداً أنه يَشعُر بها. وفي ما بينهما أحاديث وكَلِمات جَميلة، بِلون الحُقول المِنسيّة، يَرسُمان إطارها بواسِطة لُغة سريّة يُزَخرِفُها الحُب.
كَتَبَت رنا قاروط أخيراً في صفحَتها الخاصة بفايسبوك، "ستاتوس" مدوّياً، جاء كالتالي: "بحسّ أنّو جميل ما راح يُطلَع مهندس ولا حَكيم ولا مُحامي. ويمكن بحياتو ما يحكي، ولا يعرف يمسك قَلَم (طز)، بس أكيد رح يكون إنسان غير شِكل ورح يضوّي بالسما متل النجمة... الأهم الأهم إنّو – جوجو – طفل حرّ وسَعيد. بيشعر حولو بحبّ كبير وبيعطينا حُبّ أكبر وأكبر".
جميل حرب (8 أعوام) مُصاب بمَرَض التوحّد، ولكن والدته رنا قاروط حوّلت وحدته المُسيّجة بأحاسيس لا يَقدَر أن يُحوّلها كلمات، قصّة حُبّ تُلخّصها كالتالي، "رنا وجميل حُلُم لا يَنتَهي. رنا وجميل حُلم يَتجدَّد بعد كُل يَقظة".
صَديقان يَلهوان معاً في هذه النُزهة الحياتيّة الخارِجة عن كل ما يَرمُز إلى العادي.
صَديقان يَضحَكان من نَظرَة المُجتَمَع السَطحيّة والقاسية في حكمها.





تُعلِّق رنا، "أنا أعرف أن الناس يَنظرون إلينا وكأننا (في العائلة) مَحكومون بالاكتئاب. والجزء الأكبر لا يَفهَم أننا مُتقبلون لحياتنا، سُعداء بها، نَفرح ونُنجِز ونَغضَب ونفشل كالكُل"!
... صَديقان "يتآمران" على واقِع تُريده رنا أكثر إشراقاً وزَهواً.
واقع تَرقُص فيه الأحلام على صَدى أنغام تَعزُفها رنا قاروط يوميّات سَعيدة، تَسرُق الضحكة من هؤلاء الذين قرّروا نهايَتهم التَعيسة سَلفاً.
جميل، أو "جوجو"، كما تُناديه والدته رنا، ولد سَعيد، تمكّن من أن يُحوّل صمته لوحات فنيّة يُصفّق لها كل من يزور صفحته الخاصة بفايسبوك.
جَميل يَرسُم ويُقدّم المَعارِض الفنيّة، ورنا تَمسك بيده التي تَعزُف ألحانها المُبهَمة في الهواء وبغير إنتِظام.
تروي رنا قاروط لـ "النهار"، "بدايةً، كان من الصَعب جَعل جميل يَمسُك فُرشاة الرَسم، أو حضّه على العَمَل بنظافة وتَنظيم. أراد أن يَعمَل بيديه، بفوضى أو بحريّة، غير مُهم، المُهم أن ثمة شيئاً بَديعاً أحسَستَهُ ورأيته يتكوَّن".
تضيف قائِلة، "كان جميل يُرفرف بيديه على البياض، يَطرقه طرقاً مُبهَماً، فيتلوّن كأن سحراً مسّه. وعندما تَجمحان أمسكهما له، أهدئ من روعه، وأعيدهما من الفَراغ والهواء إلى السَطح الأملَس".
وهكذا خَرَجت المَجموعة الأولى.
مَجموعة "جوجو" التي أشرَفَت رنا عليها.





السطور الأولى لقصّة جميل مع الرَسم كانت، بحسب ما تَروي والدته، في صيف 2015.
"كان الاكتِشاف عندما لاحظتُ تعلّق جميل بالّلعب بالمواد الّلزجة كالشامبو وسائل الجَلي: يَدلقها على البلاط ويمرغ بها جسمه. في تلك الفترة أحبَ جميل أيضاً الّلعب بالحُبوب الجافّة، يَكمشها ويَنثرها على الأرض".
كان جميل قد تلقّى هديّة من صديقة لرنا، "هي عبارة عن مجموعة قناني من سائل التلوين المائي، وريش، ودَفتر كبير. فكرت، إذاً، أن أساعِد جميل لينقُل ما يقوم به من على الأرض إلى الوَرَق، بالأشياء التي عندنا، أي مواد الرَسم التي لم أستَعمِلها بعد".
ذات مَساء، "فَرَدتُ العدّة، ساعَدته ليجلس، اخترتُ اللون، سَكَبته على الصفحة البيضاء، فراح يعبث به فوقها وعلى جسمه كيفما اتَفَق، كما يشاء. ثم سَكَبتُ الغراء فوق الّلون، ولأننا كنا نَعمَل في المطبخ، كان من السَهل عليّ أن آخذ من الرُفوف حولي كَمشة عَدَس، مرّة، أو كَمشة أرز، مرّة أخرى، أو حتى سكّر أو حَليب، أعطيها لجَميل، فيسكُب محتوى يديه الصغيرتين على الغراء، يعجنه به، فوق الوَرَق، يَفركه به، يُقرّبه من فمّه فيشمّه ويتذوقه ثم يُعيده على الوَرَق ليلصقه عليه كما يرتئي".





... صديقان يتحاوران من خلال الأشكال والألوان... وكَمشة عَدَس أو كَمشة أرز... ويُحوّلان الأيام أرجوحة صَغيرة "تُهدهد" مُخيّلة "جوجو" الزاهية كالأحلام التي لم تولَد بَعد.
قصّة حُبّ جميلة بِبساطَتِها، قادِمة من مَكان ما هُناك، حيث الحُريّة تَكتُبُ وصيّتها...حيثُ الحُريّة تَحكُم.
خَرَجَت المَجموعة الأولى.
"وَضعتُها على البلكون لتجفّ. كان ذلك صباح يوم أحد. خَرَجتُ. ولمّا عَدتُ وكانت قد جفّت، رأيتها قد اختَلَفَت، تحوّلت وبَدَت رائِعة، كأنها لفنان حقيقي. فرحتُ بها. صوّرتها. وأردتُ أن أشاركها مع أصدقائي في صفحة خاصة بجميل، كنتُ قد أنشأتها له، أتحدّث بها، على سجيّتي، عن يوميّاتي مع التوحّد".
لاقت المجموعة الأولى استحساناً لم أكن أتوقّعهُ بين أصدقاء ومُتابعين ليوميّات "جوجو".
"أحببتُ أن أكرّر هذا النَشاط البيتيّ، يوماً بعد يوم، وتحوّل إلى غَرام وانتقام غير مَقصود من المأساة والحُزن والتعاسة والنَظرة الغبيّة والسطحيّة والتافِهة للطفل المتوحّد ولأمه ولحياتهما".
كان جميل ورنا يُنجزان في الجلسة الواحدة، "أربع لوحات، وصارت ستاً، ثم عشراً... كتبتُ مرّة في فايسبوك أنها، عندما ستَبلُغ المئة، أريد أن أنظّم معرضاً لجميل ولو بالشارِع. عرفت أن عبارة (مئة لوحة لجميل) سوف تُبهِر الناس، لكنها بالنسبة إلي عاديّة جداً، إذ كنا ننتُج بغزارة أكاد أنا نفسي لا أصدقها".





لم يُقم المعرض الأول في الشارِع، "بل في واحدة من أجمل الأمكِنة الاجتماعيّة والثقافيّة في بيروت. عرضتُ لوحات جميل المئة الأولى في غُرَف – دار المُصوّر – الدافئ والحَميم في الحمرا".
كان ذلك في تشرين الثاني 2015.
وحَملَ المَعرض عنوان، "مئة لوحة لجميل".
كان العَشرات "يَغزلون" في غُرَف الدار بحثاً عن جميل، بحثاً عن لوحاته المُتقَنة. وكان هو يَهرُب منهم بحثاً عن أحاديث صَمته التي اعتادَ صَخبها.
إلى المَعرَض الثاني.
وبَعدهُ الثالِث.





اليوم، جميل، يَتَعامَل مع الرَسم وكأنه من العَناصِر الطبيعيّة في يوميّاته غير الاعتياديّة.
يتوسّل الغواش، ويَرسم على وَرَق "الكانسون" وعلى الكانفا البيضاء التي تَستوعب لغّته "السريّة" التي يَتشاطَرها مع رنا.
يَستعين بالغري ليُنجِز الكولاج وكماليّات أخرى تختارها له رنا من مُختلف المكتبات.
"انتقلتُ إلى المكتبات بعدما استَنفدتُ كراكيب البيت، أذكر منها الألعاب الصَغيرة التي لم يَعد يَستَعملها نَذكُر منها الأزرار، وأعواد الكبريت والخيطان".
جميل لا يَتوقّف عن الرَسم.
وراني، شقيقه الصَغير، "بيتحَركَش فيه" أحياناً بحثاً عن القَليل من الإهتمام.
ورنا قاروط تَرسُمُ الأحلام الزاهية يوميّات لا يَفهَمها كُثُر.
وهي لا تُبالي.





التقيتُ بها وبـ "جوجو" ذات صَباح لدى الناشِرة وكاتِبة أدَب الأطفال، رانيا زغير.
كان "جوجو" الذي لا تَهدأ حَرَكته، يُحاول أن يُعبّر عن إحساس ما، أو رَغبةً ما، وكانت رنا تُحاوِل أن تَفهَم لغته الصامِتة.
وفجأة فَهِمت.
بعد دَقائِق قصيرة "دغري مَرَقِت".
وهَتَفت قائلة لصغيرها الذي تَعيشُ معه قصّة حُبّ قادمة من هُناك، حيث للأحلام أرجوحة صغيرة تَحضُن انكِسارَها، "هلّق فهمت! سوري جوجو. الحقّ عليّي طوّلت لفهمت شو بدّك"!


[email protected] 













 

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم