السبت - 27 نيسان 2024

إعلان

اللبنانيون بين العظمة وحقوق الإنسان

جبران صوفان
A+ A-

نتصرّف أحياناً في حياتنا كمن يأكل الوجبات السريعة، فهي مُضرّة بالصحة، والعجلة توصل الى الهلاك، فتسقط بعض المفاهيم ضحايا على دربها، مثل العَظَمة وحقوق الإنسان وسلّم القيَم.


والحقيقة ان كلمة عظمة تستحضر في نفسي الخشوع، ففي الصلاة، يسبّح المسيحيون الإله ويشكرونه "لأجل عظيم جلال مجده". وفي الإسلام،عَظَمَة الله تأتي بداهة في المقام الاول، فهو "العلّي، العظيم"، وفي المعاجم أنها "إرتفاع في القدر والمكانة". وإنما إذا كان الجلال مرادفاً للعظمة، فجلجلتها تكمن في جنونها، حيث يلازم الإنسان إحساس مَرَضيّ بأنه متفوّق على غيره، فيرقى به الى مصاف الخالدين، مزدرياً ومسيئاً الى ما عداه من البشر.
وفي لبنان، لا يبدو المشهد مشجّعاً حيث تتنامى هذه الفئة على حساب عظماء القوم الأصيلين. وأتوقّف عند ظاهرتين، هما سوء الفهم للحريات ولحقوق الإنسان عموماً، وسوء التصرّف بين البشر، كمدخل لطرح عناوين حلول.
1- سوء الفهم لحقوق الإنسان.
كرّس الدستور اللبناني الحقوق "لجميع المواطنين دون تمايز أو تفضيل" كما يجب في المقدمة والفصل الثاني منه.
وعلى الصعيد الدولي، يبقى الإعلان العالمي لحقوق الإنسان "المثل الأعلى المشترك... لكافة الشعوب والأمم" بشأن تلك الحقوق، وطبيعتها الشاملة، وهي مترابطة ومتداخلة، ومثاله قول Alain Juppé في أحد كتبه "إن الإخوّة تقوم على التسامح وإحترام الغير".
وليست حقوق الإنسان حكراً على جماعة كما يحصل في الممارسات اليومية، ولا تستثني فرداً من حق التمتّع بها. ولم يتعب المشترع الدولي من التكرار الحميد للتأكيد على شموليتها، فوردت كلمة "كل" 7 مرات، وعبارة "لكل شخص" 31 مرّة، في مواد الإعلان.
والمهم في الوطن الصغير هو معرفة ضوابط هذا الحق الفردي إذ تغدو الحريّات نوعاً من التسلّط متى تجاوزت "مقتضيات الفضيلة والنظام العام ورفاه الجميع". وأعتقد بأن شمولية الحقوق متلازمة مع دور الواجب في تحقيق مقاصد الإعلان العالمي، ممّا يوجب التمسّك الدقيق بمواده 28 الى 30. فالواجب، وإن ورد بخفرٍ في متن الإعلان، يبقى ركيزة أساسية لتعميم الرفاه في مجتمع ديموقراطي، علماً باننا لم نصل بعد الى إعلان عالمي للواجبات بالرغم من وجود مواثيق محلية وإقليمية مقتصرة على هذا الموضوع.
2- سوء ممارسة الحقوق.
في البيئة اللبنانية غرور وظهور حتى التخمة، وأنانية تتعارض مع مفاهيم الحقوق وضوابطها، وعلى كل مفترق أعظم من عظيم. إنه وباء منطقة البحر الأبيض المتوّسط مع خصوصية لبنانية، منها في الطرقات تنازع البقاء بين جرذان من حديد، لا يَنْفُذُ منه إلا السليط "والمتسلّط"، وفي الحوانيت عنجهية على همجية، وفي مراكز التسّوق خادمات ذليلات يقتفين أثر مخدوماتهن بأبشع إساءة لكرامة الإنسان التي أقرّت بأهميّتها الأمم المتحدة. وعلى العموم، أغفل البعض في بلادنا أصول التصرّف وقيَم الاخاء والوجدان والتسامح وإحترام حرّيات وحقوق الآخرين، وكلّها مفردات أممية. وفي الاعراب اللبناني، التواضع ممنوع من الصرف.
ويبدو لي ان هذه الفئة تستسيغ المعايير المؤاتية لمصالحها على طريقة الجاهلي الذي صنع "إلهاً" من التمر، ولمّا جاع إفترسه.وإنما"تَبَدُّل موازين القوى لا يجعل من الحق باطلاً ومن الباطل حقاً"اقتداء بحكمة الوزير جان عبيد.
3- عناوين الحلول.
يمكن إستنباط بعض الحلول من خلال الإعلان العالمي لحقوق الإنسان الذي تضمّن مفردات بارزة بمدلولها، منها التربية والدولة والقانون والقضاء، لتأمين الإستفادة المتكافئة من حقوق الإنسان، فلا يقضم متسلّط إرث الوطن وعظمائه ويصادر تعبهم وإبداعهم.
فعلى صعيد الدولة، ناط بها المشترع الدولي تعزيز وتطبيق وحماية تلك الحقوق وصيانة النظام العام لتنمو حقوق الفرد ضمن الأسرة والمجتمع الديموقراطي. والدولة الحامية، في الدستور اللبناني،هي التي "تحترم... وتكفل...وتضمن" (المادة 9). يبقى ان تحزم الدولة اللبنانية أمرها لأنها "عصيّة ان تكون دولة، وتكره ان تكون دولة "كما شخّص عِلّتها كبيرنا الوزير فؤاد بطرس.
والمقصود ليس أية دولة وإنما "دولة الحقّ" التي تعمل للمساواة و لا تساوم ولا تفاوض على تطبيق القانون. ويصحّ قول Lacordaire Henri: "بين القويّ والضعيف،بين الغنيّ والفقير، بين المخدوم والخادم، هي الحريّة التي تقمع والقانون الذي يُعْتِق". فعندما ندخل متاهات الإستقواء في العلاقة بين المواطنين، يكون القانون العادل خشبة الخلاص لتحرير الحريّة ومعها الضحيّة، مع التشدّد في تطبيق العقوبات، والتشديد على دور "المحاكم المستقلة والمحايدة "بموازاة التربية والوعي (المادة 10 من الإعلان).
أمّا الدور الأهمّ، فيعود للتربية الذي يطرح موضوع الجهل، وهو داء خطير. من هنا ضرورة المعالجة، لإنقاذ وطن وصيانة عظمته، وإلا "إذا أُصيب القوم في أخلاقهم فأقِم عليهم مأتماً وعويلاً" (أحمد شوقي).
وفي سلّم القيَم الصحيحة، لا ينفصل الواجب عن الحق كوجهين لعملة واحدة مرتبطة بدورها بالأخلاق التي أسهب الإعلان العالمي في وصفها.
وعملية التربية متشعّبة، إذ تَتَطلّب تجديد وتجنيد طاقات الدولة بالتعاون مع المجتمع المدني والمنظمات الدولية المعنية لتشمل كافة شرائح المجمتع، بدءاً بالآباء قبل البنين. ويندرج في هذا الإطار تدريس حقوق الإنسان، وإن يكن الإعلان العالمي رسالة "بابانويل" حسب السفيرة الأميركية السابقة Jean Kirkpatrik، إلا أنه رسالة فرح ووئام بدلاً من البربرية التي إستذكرها الإعلان. ومن المفيد التعريف على المساهمة العظيمة للدكتور شارل مالك في صياغته، أو حتى تدريس مالك الديبلوماسي الأُممي كمادة منفردة. وذلك يكفي لتلمّس معاني الحقوق والعبقرية الحقيقية.
وفي بحثنا عن القيَم المشتركة، أرى فوائد جمّة في إعادة العمل بخدمة العلم.
بإختصار، "العَظَمَة" المزيّفة تتعارض مع حقوق الإنسان، وتتبلور بتحوّل مرعب في نمط العيش اللبناني. ومع ذلك أُتوسم خيرا، ولو بحذر فطري، لإدراك فخامة رئيس الجمهورية مدى "الإنحطاط الذي ضرب المجتمع" ولحرصه على الأخلاق والتربية لإصلاح "سيرته وسلوكه".


سفير لبنان سابقاً لدى الأمم المتحدة
والمنظمّات الدولية في جنيف

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم