الجمعة - 26 نيسان 2024

إعلان

انعكاس الوضع السوري على اقتصاد لبنان

الدكتور مكرم صادر
A+ A-

أصدر مكتب "الاسكوا" في بيروت في حزيران الماضي، دراسة عن انعكاس النزاع السوري على الاقتصاد اللبناني، وهي مستقاة في بعض معطياتها من النشرة الفصلية ربيع الـ2013 للبنك الدولي، مع غياب فاضح للمصادر الموثوقة او الموثقة. وإذ أترك للاجهزة الوزارية المختصة التدقيق بالأرقام، يهمني التوقف عند ما يعني القطاع المصرفي وتحديداً لجهة ما ورد ان نحو 11 مليار دولار عائدة للسوريين دخلت إلى القطاع المصرفي.


ويؤسفني القول إن هذه المقولة تنم عن جهلٍ مطبق ليس في وضعية أرقام القطاع المصرفي اللبناني بل ايضا في معطيات القطاع المصرفي الخاص في سوريا!. ونقول الخاص في سوريا، لأن تحويل العملات الأجنبية من المصارف العامة وتحديداً من المصرف التجاري السوري إلى لبنان غير موجود لئلا نقول ممنوع. ومسؤولو "الإسكوا" ومنهم مَن كان بموقع المسؤولية الحكومية الرفيعة في سوريا، يعرفون ذلك خير معرفة!! والبنك المركزي السوري حافظ العملات الأجنبية، استنزف خلال الازمة معظم الاحتياطات واستعملت لتمويل الاستيراد الضروري من الخارج ولتلبية الطلب على العملات الأجنبية في السوق خصوصا من المتمولين النافذين الذين حوَّلوا معظم أموالهم إلى الخارج المعروف من مسؤولي "الإسكوا" والتي كانت وجهتها بحسب الصحافة العالمية، أسواق دبي وموسكو وأوكرانيا، وبعضها توجه إلى تركيا والأردن ومصر، وقليل القليل إلى لبنان.
وربما تضمن منشور "الإسكوا" خطأً مطبعياً. فبدل إدراج 1٫1 مليار دولار، أدرج 11 أي تمَّ ضرب المبلغ بعشرةّ؟ وحبذا لو دقَّق كاتبو المنشور في إجمالي ميزانيات القطاع المصرفي السوري الخاص آخذين في الاعتبار تطورات أسعار الصرف، لكانوا لاحظوا أنها لم تتدنَّ إلاّ بمقدار 1,5 مليار دولار! فمن أين يحصل القطاع الخاص السوري على 11 مليارا لتحويلها إلى الخارج وإيداعها المصارف اللبنانية؟
هذه المبالغات البعيدة من الواقع تؤذي مجانا لبنان واللبنانيين عموما والقطاع المصرفي خصوصا. فتضخيم حجم الأموال الوافدة إلى لبنان، قد يُقصَد به إقامة نوع من التوازي بين كلفة النازحين والحرب في سوريا على لبنان ومردودها عليه. والحقيقة أن القطاع المصرفي اللبناني نمت ودائعه غير المقيمة بـ8 مليارات دولار بين آذار 2011 وأيار 2013، ويعود معظمُها للبنانيين غير المقيمين والباقي للرعايا العرب، ومنهم التجار السوريون والصناعيون ورجال ألاعمال من غير المدرجين على أي لوائح عقوبات في أميركا أو في أوروبا أو في الأمم المتحدة. أما المال الرسمي والسياسي السوري، فتوجه إلى العديد من الأسواق الإقليمية والدولية باستثناء السوق اللبنانية نتيجة التزام المصارف بقوة وبدقة، العقوبات الدولية، ونتيجة حرص المصرفيين على سمعة القطاع عالمياً، واخيراً نظراً الى تجنب المال الرسمي والسياسي السوري المجيء إلى لبنان للأوضاع السائدة فيه والتي تتصف بانقسام اللبنانيين الحاد بشأن المسألة السورية. وللمقارنة، خلال الستينات عندما اجتاحت موجة التأميمات سوريا ومصر والعراق، شكَّل لبنان وجهةً أساسيةً للتجار والصناعيين والمصرفيين السوريين ولعائلاتهم ولثرواتهم ولاستثماراتهم. وكان لبنان حينها مستقراً ومزدهراً ويتمتع ببنية استقبال مؤاتية للمستثمرين. وما أبعد اليوم عن الأمس!
بعدما أوضحنا رأينا بوهم دخول 11 مليار دولار من سوريا إلى لبنان، نعود إلى الانعكاس الحقيقي للحوادث القائمة في سوريا على الاقتصاد اللبناني.
بدايةً، لا معنى لمقارنة معدَّلات النمو الاستثنائية التي عرفها الاقتصاد اللبناني في الـ2007 - 2010 بالمعدَّلات القائمة حالياً 2,0% و1,5% مقابل 8% و9%، وإعادة الفارق إلى ما يجري في سوريا! فالحقيقة أن متوسط معدلات النمو في العقدين الماضيين جاءَ بحدود 3% إلى 3,5% في المتوسط بحسب سنة الأساس المعتمدة. ويمكن تالياً تقدير تأثير سوريا على الاقتصاد بما يراوح بين 0,3% و0,5%. وتظهر دراسة البنك الدولي أن حركة التجارة تراجعت 0,5% بالنسبة الى الصادرات، فيما انخفض الاستيراد بين 2010 – 2012 من 0,9 إلى 0,6% كنسبةٍ من الناتج المحلي الإجمالي، وتراجعت حركة الترانزيت من 0,2 إلى 0,03% من الناتج، أي توقفت عملياً. أما السياحة، فتأثرت فعلاً بالحوادث السورية وانعكست انخفاضاً بحدود 0,5% من الناتج نتيجة تراجع التوافد عبر البرّ. وتأثرت السياحة بطريقة غير مباشرة نتيجة الوضع السياسي والأمني الشاذ في لبنان في ظل غياب سلطة فاعلة مما جعل دول الخليج تحظّر السفر لرعاياها إلى لبنان.
ليس عدلاً تحميل الوضع السوري كامل المسؤولية، إذ تعود في جزءٍ مهم منها إلى سوء الإدارة السياسية والاقتصادية واستهتار بعض الأحزاب والقوى السياسية بمصلحة البلاد والعباد. وفي السوق العقارية، تُبيّن دراسة البنك الدولي أن زيادة الطلب والضغط على الشقق إيجاراً وشراءً من السوريين، جاءَ أدنى من التراجع المرتبط بالركود في السوق. فقد أظهرت عمليات تسجيل العقارات تراجعاً من نسبة 1,6 إلى 1,3% من الناتج المحلي الإجمالي رغم الطلب السوري الإضافي.
وعلى مستوى سوق العمل، ليس سهلاً قياس الانعكاس لأن العمّال السوريين ينافسون أكثر بعضهم بعضاً من منافسة العمالة اللبنانية، آخذين في الاعتبار مستوى التأهيل المطلوب ومجالات العمل المتاحة. وليس مؤكداً بعد أن حجماً أكبر من العمالة السورية يعمل فعلياً في لبنان، لأن ركود الاقتصاد اللبناني وتدهور معدّلات نموه لا تخلق فرصاً إضافيةً لهذه العمالة الوافدة. وعليه يبقى العبء الأساسي للنازحين السوريين مُركزاً في مجال الخدمات والمرافق العامة (التعليم والطبابة والمياه والكهرباء...) ذات النوعية المتدنية أصلاً، والتغطية المحدودة للبنانيين أنفسهم. فكيف مع إضافة الأعداد الضخمة من النازحين؟ ومما يفاقم هذا الوضع، تركز أكثر من 70% من النازحين في مناطق مثل الشمال والبقاع والجنوب، التي تفتقر أساساً الى كفاية الخدمات العامة. كذلك تفتقر الحاضنة اللبنانية عينها لبيئة اجتماعية متماسكة ولرؤية سياسية متقاربة بالنسبة للأوضاع في سوريا، مما يعقِّد أكثر كفاية التعامل مع مسألة النازحين وكلفته. وللتذكير، لم تكن تجربتنا تاريخياً في التعامل مع اللجوء الفلسطيني ناجحة لضعف سلطة الدولة ولاختلاف اللبنانيين مع مرور الزمن بشأنه. فلا سلطة الدولة اليوم أفضل ولا رؤية اللبنانيين أكثر تقارباً.


 الامين العام لجمعية مصارف لبنان.

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم