الجمعة - 26 نيسان 2024

إعلان

الروائيّة وعضو "أكاديميّة غونكور" بول كونستان لـ"النهار": "الحصول على "غونكور" أمر عنيف"

المصدر: "النهار"
رلى راشد
الروائيّة وعضو "أكاديميّة غونكور" بول كونستان لـ"النهار": "الحصول على "غونكور" أمر عنيف"
الروائيّة وعضو "أكاديميّة غونكور" بول كونستان لـ"النهار": "الحصول على "غونكور" أمر عنيف"
A+ A-

حوارٌ في بيروت مع الروائيّة وعضو "أكاديميّة غونكور" بول كونستان حول الكِتابة والحياة وما بينهما. تفرّجت الكاتبة الفرنسيّة تأليفياً على معيشها المنصرم المُبعثر بين بلدان عدة خارج الـ "متروبول" الفرنسيّة وراقبَت لحظة نيلها جائزة "غونكور" في آخر تسعينات القرن المنصرم في وسط ضوضاء دارَت في جوار نصها الأدبي وكادت أن تسرق منها بريق الإستحقاق. خلال مرورها البيروتي لمواكبة منح "جائزة غونكور- خيار الشرق" في سياق "معرض الكتاب الفرنكوفوني" 2016 إلتقتها "النهار" فقلّبت معها أوراق الزمنين التخييلي والواقعي:


في رصيدك عناوين عدة كمثل "بالتا" و"زيت التربنتين" و"فرنسا القوية!" و"وطاوط وقردة ورجال" تجري حوادثها في أفريقيا التي تعرفينها جيداً وحيث صرفتِ جزءاً من حياتك. ها نحن ندخل إلى حديقة طفولتك السرية إذاً، فكيف استطعتِ إعادة إحياء هذا المكان المادي القريب منك كتابياً وبعيون شخصيات متخيّلة؟


إنها خيمياء. أتعرفين، ستستعيد دار "غاليمار" ضمن سلسلة "كوارتو" جميع كتبي "الأفريقية" وينبغي لي للمناسبة أن أكتب سيرتي وأن أتحدّث عن كتبي على ضوء هذه السيرة، وهذا هو سؤالك تحديداً! يقلقني الأمر كثيراً لأن العمل الأدبي يوازي الفرار من الواقع وهو إعادة كتابة للتاريخ أيضا. طالما كرّرت اني أعيد كتابة قصتي لمنح الإنطباع بأنه كان ممكناً عيشها، علماً ان ما اختبرته كان أشد قسوة مما أسرده. ألّفت الكتب لجعل حكايتي محتملة. من الصعب جداً أن أفصُل بين الحقيقي والمختلق، لأنهما متداخلان. ما أن أنهي أي كتاب يصير مضمونه تخييلاً بينما يختفي الواقع المعيش لمصلحة الكتاب، لهذا السبب إن سؤالك صائب تماماً. نكتب أيضاً لنفهم لكن عندما نكتب يسمح لنا الوقت بترتيب الأمور وتنظيمها واستعادة ما أثّر فينا. ثمة أمور حقيقية طبعاً لاسيما ما عشته في افريقيا وفي الدُغل تحديداً وهو مكان لا يرويه الكتّاب الأفارقة المعاصرون لأنهم لا يعرفوه. فإذا كانوا امتهنوا الكتابة فهذا يعني انهم عاشوا في المدن خصوصاً. تسنّى لي وهذه حال نادرة، أن أقدّم شهادة حول ما كانت عليه الدغل في المعنى الواسع. في إحدى المرات وبينما كنتُ أتحدث عن الدغل إستاءت مني كاتبة من نيجيريا لظنّها ان الدغل في رأيي أمر سلبي، بينما هي الطبيعة بلا ترويض. أقدّم شهادة على ذلك وعلى الناس والحيوانات في وسط هذه الطبيعة. ليست الدغل حديقة حيوانات. أتحدّث عن قدرة الناس على البقاء على قيد الحياة في وسط طبيعة تشكّل تهديداً عظيماً.


كان والدي طبيباً وطالما عِشتُ في المستشفيات أو في محاذاتها. إرتبطَت حياتي كلها بمعاناة شكّلها المرض في زمن حيث فتك بالناس. لم يكن الطبّ متطوراً وكانت المستشفيات بدائية جداً وكان والدي الطبيب الوحيد في منطقة بحجم لبنان وهو تولّى إجراء العمليات القيصرية وبتر الأعضاء ومهمات أخرى. إتخذت حياتي بعداً مضخماً تالياً وتأرجحت بين الحياة والموت. ثمة أمر حقيقي آخر فهو تعاستي كطفلة وإلى حدّ بعيد، لكني لم أرغب يوماً في أن أسأل لماذا وكيف وأن أحاكم والديّ أو تربيتي أو الحقبة التي عشتُ فيها. نحن نتلقّى التربية التي يتلقاها جميع أبناء جيلنا، والحال انها كانت قاسية لأن والديّ إختبرا هذه القسوة، تملّكني طفلةً إحساس بالذنب أيضاً بسبب امتلاكي أشياء كثيرة افتقر لها الأطفال الآخرون المعدمون. آنذاك لم يملك الأفارقة الكساء حتى، والحال ان النساء وضعن باقة من الأوراق لستر أنفسهن، في غياب القماش. هذا كلّه حقيقي، وإلى جانبه إنبغى لي أن أسرد قصصاً لم تكن واقعيةً تماماً. سأخبرُك حكاية حصَلَت معي في إقليم غويانا. حين أنهيتُ كتابة "إبنة الحاكم" التي تستعيد موضوعات كمثل المرض والطبيعة المتطرفة وبؤس الطفولة، قصدتُ كايين للإحتفال بعيد ميلادي الخمسين، علماً اني غادرت العاصمة في السادسة. وصلتُ بالطائرة بينما اعتدت المجيء طفلةً بالسفينة. كانت الشمس ساطعة، فقلتُ أنجزتُ للتو كتاباً مُختلَقاً تماماً وهذا أمر فظيع فعلاً، ولكن في الصباح التالي هطلَت الأمطار وانتشر الوحل، فقلتُ انه لأمر فظيع حقاً ذلك اني لم أختلق شيئاً!


يستعيد عنوان روايتك بالفرنسيّة "وطاوط وقردة ورجال" عنوان رواية ستاينبك "فئران ورجال" ويوسّعه...


لكنه خصوصاً مسار وباء يبدأ مع الوطاوط ويمرّ بالقردة وصولاً إلى الرجال...


أجل تصفين في النص بزوغ فيروس الإيبولا الذي لا تكشفين عن هويته سوى صوب نهاية الرواية. في النص تصفين جمال أفريقيا وإيمانها والخرافة ناهيك بالإستعمار. تكتُبين "يلِدُ كل مرض من الإنتهاك". هل ترغبين في تأكيد اللقاء المُستحيل بين ثقافتين، أفريقية من جهة وأوروبيّة من جهة ثانية؟


أردتُ ان أظهر ان ثمة ثقافتين أوروبية من جهة وأفريقية من جهة ثانية ولكن الإثنتين مصابتين بعمى مماثل إزاء ما يحدث، لأن الأوروبيين - وتحديداً العالِم الشاب فيرجيل في الرواية - لا يبيّنون عن إدراك أفضل من سكّان القرية أو الشافية. لا يعي أحد ما يحدث وخصوصاً أغريبين لأنها عاجزة عن تسمية المرض. يصير كل وباء أمراً مُرعباً فعلاً حين لا نعرف ما هو تماماً وحين نعجز عن تحديده حتى، فلنتذكّر ما حصل مع فيروس السيدا مثلاً. قرأتُ أخيراً مقالاً في صحيفة "لو فيغارو" يشرح ان الإيبولا صار فتاكاً إلى هذا الحد بسبب تبدّل ظروف الحياة، أي بسبب مغادرة السكّان قراهم واحتشاد مراسم الدفن المُخصصة لضحايا الفيروس ناهيك بتوسّع المدن كثيراً.


تروي "وطاوط وقردة ورجال" قصة مؤلمة بشاعرية وفكاهة وفي أسلوب على خفّة فريدة لا تُخفّف ويا للمفارقة، من وطأة الحوادث الأليمة. هل تساعد هذه المقاربة على تلطيف قساوة الأحوال؟


حين أجرى الصحافيون التقارير والتقطوا الصور في شأن وباء الإيبولا وصفوا أمراً مروعاً، ولأني روائيّة ولست صحافية إستثنائية إنبغى لي أن أقدّم وجهة نظر مختلفة هي الأسلوب. في العمق أرَدتُ أن أتناول هذه المسألة كقصيدة، والكتاب بهذا المعنى هو مجموعة شعريّة.


في لقاء حول روايتك "بما أني أبوح" التي تتقدّم في بيئة النسويات في الولايات المتحدة الأميركية، ذكَرتِ ان الكتابة الروائيّة "أمر مرهق" ونشاط مدمّر فكرياً وعاطفياً لأنه يتطلّب من الكاتب أن يُعطي من دون كلَل. فهل الكتابة هي تمرين على الموت التدريجي؟


في رأيي هناك طريقتان للكتابة. حين أنجز بحثاً أو أطروحة في صفتي الأكاديمية، أتغذّى وأبني نفسي أما حين أكتب رواية فثمة ما يخرج مني وأشعر بأني أُُفرغتُ من الداخل وكأني أتخلّى عن جوهري. لهذا السبب ينبغي للمرء أن يتمتّع بحال جسديّة ونفسانيّة ممتازة حين يكتب الرواية، لأنها مرهقة عاطفياً وجسدياً بما أن الروائي لا يغرفُ من الآخرين. حين يُجري الروائي الأبحاث يصير نصّه بحثاً بينما تعني الرواية التنقيب في الأعماق.


حين نلتِ جائزة "غونكور" في 1998 بفضل روايتك "بما أني أبوح" متخطّية رواية ميشال ويلبيك "الجزئيات الأساسية" التي عُدّت الأوفر حظاً كُتب أنك "أحد الذين قتلتهم "غونكور"، كمثل الكاتب غي مازلين الذي فاز على سيلين. إلتحَقت مُذاك بـ"أكاديميّة غونكور" كأحد المحكمين، فهل هذا ألطف انتقام من عنف ماضٍ واجهته؟


تُصيبين تماماً. لسوء طالعي صادفتُ في طريقي شخصاً يُدعى ويلبيك وهذا شقاء حقيقي، لأنه كان المفضّل بالنسبة للصحافة في حين مُنحت أنا الـ "غونكور". لم تحصل المنافسة في النهائيات لكن الصحافة تناولتني بعنف خالص. في الأساس إن حصول المرء على جائزة "غونكور" هو أمر عنيف فكيف هي الحال حين يحصل ذلك عكس التوقّعات؟ قبل نيلي "غونكور" كنتُ كاتبةً تَحظى بالإحترام والحال انه لا ينبغي لي تقديم البراهين على ذلك، لكن وفي أعقاب هذه الجائزة انبغى لي أن أعيد بناء نفسي. أظنّ اني والى الآن لم أستعد المكانة التي كانت لي قبل الجائزة. حين طلبَت مني "أكاديمية غونكور" الإلتحاق بها كعضو شعرتُ أني أُمنح جائزة "غونكور" مرة ثانية. في الواقع وصلتُ إلى نهائيات "غونكور" أكثر من مرّة. أظُنّ الإمتياز سُرق من رواية "إبنة الحاكم" بعدما حَصلتُ على عدد الأصوات عينها التي نالها الكتاب الفائز، وكان يجب أن أحصل على الجائزة لـ "زيت التربنتين" أيضاً ولروايتي الأولى أيضاً لكنها رُكنت لي بفضل رواية "بما أني أبوح" حيث ثمة نساء فحسب، وبسببها تَعرّضت لهجمات لاذعة ومُبغضة للنساء. هذه حياتي. حين سأموت سيُنشر ربما مقال إضافي حيث يُذكر اني نلت "غونكور" عوضاً من شخص آخر، علماً اني لا أكنّ أي اعتبار لويلبيك وأعدّ كتبه مزرية وقراءه من الصنف المزري أيضاً!


في 1964 رفض جان بول سارتر "نوبل" الآداب لأنه لا ينبغي للكاتب في رأيه ان يصير مؤسسة. في 2016 مُنح بوب ديلان هذا الإمتياز ليثير بعض ردّات الفعل المناهضة لأن الجائزة كرّمت أحد حاملي "ثقافة كونيّة غربيّة" المتمثّلة بالأغنيات الأميركية. فهل يؤكد خيار هذا العام ما قاله سارتر حول ان "نوبل" الآداب "امتياز يخصّص لكُتّاب الغرب أو لمتمرّدي الشرق"؟


أظن سارتر هو مؤسسة في ذاته ولا يعوز مؤسسة رديفة (ضحك). لن يضاهي أي مثقف معاصر ما مثّله سارتر خلال حقبة معينة. كان مؤسسة على مستوى الفنون والآداب والفلسفة وحاك حوله شبكة واسعة والحال اننا لم نغادر إلى اليوم "حقبة سارتر". كان رفضه "نوبل" لافتاً. وإذا عدنا إلى ولادة الجائزة لأدركنا انها جائزة غربيّة بل وأوروبية وان فكرتها كانت كونيّة في الأساس. أما أن تمنح لموسيقيّ ومغنٍ وكاتب أغنيات - وإن كانت جميلة جداً - فذلك يوازي أن يدير المرء ظهره للكِتَاب، في زمن حيث يتهدّده الإندثار بسبب الوسائط الحديثة، فهل ينبغي لنا أن نجعل الكِتاب يختفي في فحواه قبل أن يختفي في الشكل؟ تتراءى "الأكاديمية الأسوجية" رائدة في هذا المضمار! كان في وسع كُتّاب كبار نيل "نوبل"، من قبيل سلمان رشدي أو كاتب عربي كأدونيس أو مؤلفين أميركيين بارزين. لحسن الحظ لم تُمنح جائزة "غونكور" 2016 لأكثر المُغنين رواجاً راهنا!


 


[email protected]
Twitter: @Roula_Rached77


 

الكلمات الدالة

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم