السبت - 27 نيسان 2024

إعلان

عن وجهيّ يهوذا

المصدر: النهار
رلى راشد
عن وجهيّ يهوذا
عن وجهيّ يهوذا
A+ A-

ليس يهوذا الإسخريوطي شخصيّة طارئة على آداب العالم. صادفناه في الهنا والهناك، بدءاً من أغنيات القرن الثالث عشر مروراً بنافذة "الكوميديا الإلهية" الأولى في وسط جحيم الإيطالي دانتي، حيث خُصصت له العقوبة الأكثر فظاعة والقاضية بطحنه إلى الأبد بأفواه لوسيفورس الثلاثة، وصولاً إلى قصة بورخيس القصيرة "صيغ يهوذا الثلاثة". وإذا كان دانتي قاربه كأسوأ مثال على أسوأ خطيئة محتملة وهي الخيانة، تمهّل آخرون عنده كنموذج أقل ذنباً مما قيل وأكثر وَهَناً مما تبيّن، بيد انه، وفي جميع الحالات، ظلّ موضوع نقاش ومادة للتحليل والتخييل منذ أكثر من ألفي عام.


يلتحق ملحم الرياشي بالعمارة التأليفية المتكوّرة على الإسخريوطي من طريق كتابه "يهوذا الإسخريوطي الخائن البار" (وفق عنوانه بالعربيّة) والصادر حديثاً منقولاً إلى الفرنسيّة (لدى "لارماتان" الفرنسيّة و"دار سائر المشرق للنشر والتوزيع" اللبنانية)، بعنوان "يهوذا الإسخريوطي، سوء الفهم"، بعدما كان صدر في طبعته الأولى في 1995 بالعربيّة ثم منقولاً الى الإنكليزية، لاحقاً.


منذ برهة العنوان تتّضح رغبة الرياشي في دخول منطقة الإلتباس ويظهر ميله إلى نزع ثوب الشبهة المُطلقة عن يهوذا بن سمعان الإسخريوطي ليجعله بوجهين، وجه الخائن ووجه البار على السواء، وليلتحق بنظريّة كان بحث فيها إميل جيلابير في كتابه "يهوذا خائن أو مطّلع" والذي يذكرُه الرياشي، من ضمن مراجع أخرى إعتمدها في إصداره. ومنذ البرهة التأليفيّة الأولى أيضاً يَستقدم الرياشي تنويعاً أسلوبيّاً على مناخ الإنجيل ليدوّن "في البدء كان يسوع ويسوع كان عند الله وكان يسوع الله. هذا كان منذ البدء وبه ابتدأ كل شي، أما هو فليس له ابتداء أما هو فليس له انتهاء".


لا يلبث النص أن يضطلع بمهمة الملاحقة المُتصوّرة للإسخريوطي مُتسللاً إلى ما كان يحتمل أن يكتنزه هذا المرء في السطور المُغفلة أو المُهملة من الرواية الإنجيليّة، لتتجلى على هذا النحو إرادة اقتراض الهيئة الروائيّة في موازاة إحياء التفاصيل السرديّة حول سمات الوجوه والأزياء وسواها.
وإذا كان الكتاب ينطلق من الإشتغال على بناء الشخصيّة المحورية التي تمنحه هويته، أي يهوذا، منذ الولادة إلى السن الراشدة وصولاً إلى لحظة "تأرجح ركضة غلوتين ثم استقر مشنوقاً في الوادي"، على ما نقرأ، فإنه ينشغل كذلك بتقديم صورة الرجل الذي حمل "همّ الأرض وهمّ الشعب". ها إنه إذاً يرفعه إلى مرتبة صاحب المقاربة الوطنيّة التي أحبطت في مهدها، ليتمّ التشديد على هذا النحو على التضارب بين مشروع يسوع الناصري من جهة ومشروع يهوذا الإسخريوطي من جهة ثانية، أو بتعبير آخر بين رؤيتين لحدث الوجود على الأرض، بين التوق إلى التقاط جذوة السماء وبين التشبّث بجذور البسيطة.


يتوزّع الكتاب في أربعة فصول في وسط بعثرة كرونولوجية مقصودة وفي موازاة إستدعاء بعض شخصيّات الكتاب المقدّس المحوريّة ناهيك ببعض المحطات المفصلية المذكورة فيه. يستمهل "يهوذا الإسخريوطي، سوء الفهم" بعض الرؤى التوراتيّة أحياناً أيضاً والتي شاء العهد الجديد أن يستعيدها أيضاً على نسق نبوءة أشعيا "سَماعًا تَسْمعونَ ولا تَفهَمونَ، ونَظرًا تنظُرونَ ولا تُبصِرون". والحال ان الرياشي يجعل الإنجيل قماشته السرديّة فينطلق منها لينسج بخيوطها نصه.
في وسط جميع هذه التفاصيل، يأتي الكتاب بمحاولة لإعادة تملّك الإنجيل من وجهة نظر شخصيّة في تأثر واضح بمناخ السؤال اللاهوتي الذي لا ينتهي.


 


[email protected]
Twitter: @Roula_Rached77


 

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم