الجمعة - 26 نيسان 2024

إعلان

الأغلبية ليست دائماً مستبدة وعلى خطأ!

محمود حدّاد
A+ A-

ليست هذه المقاربة رداً على مقالَي سام منسى وانطوان قربان اللذين نشرا في "قضايا النهار" (1 أيلول 2016)، إلا أنها من وحي الكلام (لا النقاش) الدائر حول مسألة الأقليات غير الإسلامية ومظلوميتها الحالية والتاريخية في المشرق العربي تحديداً. من هنا، فإن همنا التفسير والإيضاح التاريخيين لا الدفاع أو الاتهام. وذكرت "النهار" أن أحد مظاهر الأزمة السياسية اللبنانية الحالية هو إظهار الطائفة السنية على أنها "تأكل المسيحيين وتمنعهم من استرجاع حقوقهم". (روزانا بومنصف، 10 أيلول 2016)


منذ بداية الحراكات الشعبية العربية في 2011، وحتى قبل تحويل بعض الأنظمة، عامدة متعمدة، الحراكات صراعات عسكرية وطائفية ومذهبية ومناطقية، انطلقت حملة دعائية واسعة تتهم الأغلبية العربية الإسلامية (أي السنية) بالاستبداد وتهديد الأقليات، مع أن بعض الغالبية كان محكوماً وبعض الأقليات كانت حاكمة في أكثر من دولة على الأقل في المشرق العربي.
إلا أنه كان طبيعياً أن تزيد حدة هذه الاتهامات بعدما أُشعلت المنطقة عنفاً طائفياً ومذهبياً، وقام بعض التنظيمات الإسلاموية المتطرفة بممارسات غير مألوفة وصادمة في صراعات عالم اليوم، وإن تكن تلك الممارسات تشبه ممارسات الأنظمة القمعية الأقلوية و"العلمانية"، وإن تحت غطاء أيديولوجي ديني في بعض الحالات وغطاء تنظيمات مذهبية صريحة في حالات أخرى.
تطورت الأمور حتى دعا وزير خارجية فرنسا الأسبق لوران فابيوس العام الماضي إلى اجتماع دولي بعنوان: "ضحايا هجمات وابتزاز العرقيات والأديان في الشرق الأوسط". وعبَر جبران باسيل، وزير خارجية لبنان، وأحد ممثلي تيار سياسي معين في البلاد، عن هذا الفكر عندما تساءل: "ماذا تبقى من قيمة للأقلية إذا كانت تعيش تحت رحمة الإيديولوجية الأكثرية".
وينسى هؤلاء أن ممارسات التنظيمات المتطرفة أصابت الأكثرية مثلما أصابت الأقليات، غير أن صراخ الاحتجاج لم يكن يعلو إلا عندما كانت تلك الممارسات الشبيهه بممارسات مخابرات الأنظمة تصيب الأقليات المذهبية والعرقية ويُهرع إلى تنظيم التظاهرات وعقد الندوات والمؤتمرات المحلية والدولية حول ما أصابها هي، وهي فحسب.
بالطبع، لا نقاش حول ممارسات الأنظمة الأقلوية ضد الأغلبية إلا في ما ندر، وعندما تلفت النظر إلى ذلك يأتيك الجواب: "وما أدراك؟ هل شاهدت ذلك بنفسك؟". وأدى "حلف الأقليات" الإسلامية وغير الإسلامية إلى توجيه حملة مركزة ضد "الأغلبية" التي ليس لديها هذه الصفة في كل زوايا المشرق، بل هي تمثل الأغلبية فعلاً في بعض المناطق وتمثل الأقلية في مناطق جغرافية أخرى. والطريف أن صفة "الأغلبية" أصبحت معادية للديموقراطية حُكماً بينما تحولت صفة "الأقلية" ضامنة للديموقراطية حُكماً.
إن استخدام ورقة اتهام المسلمين السنّة بالاعتماد على العنف والقتل والتطرف الدائم كان موجوداً منذ ما قبل "داعش". كان موجوداً في اتهام السلطان عبد الحميد (الذي استخدم لقب "خليفة المسلمين" كي يوازن ادعاء أكثر من دولة غربية بأنها تحمي الأقليات غير الإسلامية داخل دولته)؛ في محاولة الملك فيصل الأول تحقيق استقلال بلاد الشام بعيداً من النفوذ الفرنسي؛ في جمال عبد الناصر المتهم بإخفاء الإسلام تحت عباءة العروبة على الرغم من صدامه مع "الإخوان المسلمين" (شعار "العروبة هي الإسلام")؛ في الجمعيات الخيرية الإسلامية وليس في البعثات التبشيرية الأجنبية؛ في رياض الصلح المتهم الأوحد بإعدام أنطون سعادة مع أنه كان الوحيد الذي أبدى اعتراضاً (بحسب رواية الأمير فريد شهاب، مدير الأمن العام وقتها) حيال اتخاذ هذا القرار الذي صدر عن اجتماع ترأسه رئيس الجمهورية؛ في رفيق الحريري المتهم بأنه أخذ دوراً أكبر مما هو مسموح له إقليمياً وحاول فتح أبواب التعليم الجامعي لفئة غير قادرة من الشباب اللبناني؛ في أن الحريري الأب حاول شراء البلد كله وفي أن الحريري الإبن أفلس ومتجه إلى صرف أغلب الذين يعملون في شركاته؛ في صيحة "الله أكبر" المخيفة التي لم يذكر أحد في ذكرى رئيف خوري أن الكاتب الكبير فسرها بأنها صرخة المظلوم ضد الظالم!
مهما يكن، إن الكلام عن "حقوق الأقليات" و"واجبات الأغلبية" الذي لا يكل ولا يمل جعل الأغلبية متهمة دائماً وجعلنا نشك في أن للأغلبية حقوقها وعلى الأقليات واجبات أيضاً. كما أن افتعال التماهي الكامل بين أسوأ جزء من الأغلبية وأكثره بدائية وبربرية مثل "داعش" (المصنوعة والمدعومة، ولو بوتيرة متقطعة وإنما أكيدة، من أنظمة محلية وإقليمية ودولية)، والذي يعرف الكثيرون من وقف وراء نشأتها ومن قام بتسليحها وتمويلها، والكتلة التي تمثل الأغلبية فعلاً، أدى إلى إزالة الفروق بين الخسيس والنفيس وكشف عن إصرار مسبق لاتهام الأغلبية بمجملها بالاستبداد والدموية. أما الأقليات فكلها نور وتنوير وممانعة ومقاومة، حتى لو كان حلفاؤها المحليون والإقليميون سبقوا "داعش" في وسائلها.
لا شك في أن على نخب الأغلبية أن تفتح نقاشاً حول ما عليها القيام به للتخفيف من حدة التطرف بين صفوفها، إلا أنه على النخب غير الإسلامية في المشرق أيضاً أن تفتح نقاشاً هي الأخرى عن علاقة السياسة الاستبدادية ببعض الأقليات، مما أدى إلى شيوع تعبير "تحالف الأقليات" الذي يرى القذى كله في عين طائفة ويغض الطرف عما يجري في أقبية سجون بعض الأقليات من تجويع وتعذيب وانتهاك.
لا بد من تكرار تفنيد بعض المقولات التاريخية الخاطئة حول علاقة الأقلية بالأكثرية وعلاقتهما بالدولة وبالضغوط الخارجية، وكلها أمور مترابطة. مسألة التركيز على أنَّ الدين والدولة متحدان في الإسلام، منفصلان في غيره خاطئة تماماً، تكرار هذه المقولة لن يغير في الأمر شيئاً. في الإسلام التاريخي لا الايديولوجي أو النظري، هناك انفصال (انفصال واحترام في حالات معينة، وانفصال وعداوة في حالات أخرى)، ولا نقول علمانية، وذلك منذ إنشاء الدولة الأموية على الأقل. الاتحاد كان بين الدين والمجتمع الإسلامي تحت سقف الشريعة. لهذا، نشأت أزمة طويلة لم تنتهِ بين الدولة السلطانية المستبدة ومعظم المجتمعات الإسلامية زادها التدخل الغربي في العصر الحديث.
أدى اضطرار الدولة في العالم الإسلامي إلى محاولة تحديث أدواتها المدنية والعسكرية بسبب الهيمنة و/ أو الاحتلال الغربي إلى زيادة الضغط على المجتمع الإسلامي حيث كان المسلم يتمتع بامتيازات أسبغتها عليه الشريعة وفرضت معاملة أهل الذمة كمواطنين من الدرجة الثانية بلغة اليوم. (كان ذلك أفضل الخيارات المتوفرة في العصر الوسيط، لأن البديل كان إجبار غير المسلمين إمّا على تغيير دينهم أو الهجرة أو القتل كما فعلت أوروبا المسيحية مع المسلمين واليهود عند استعادة صقلية والأندلس في القرن الخامس عشر). لذلك كانت "الذمية" مبدأ تسامح نسبي لا مبدأ إستبداد في ذلك العصر.
في العصر الحديث انقلب الوضع في الدولة العثمانية ومنذ القرن التاسع عشر حيث قامت الدولة إما سعياً لزيادة امكانياتها المادية، لأسباب ذكرناها سابقاً، بالبدء بعملية تاريخية طويلة تنزع الشريعة الإسلامية تدريجاً عن المجتمع وتزيد مستوى الامتيازات الاجتماعية والتعليمية والاقتصادية للأجانب والأقليات غير المسلمة، إلى درجة أن أغلبية المسلمين شعروا أن "ذمية معاكسة" ألقت بمراسيها عندهم وأنهم هم الذين أصبحوا مواطنيين من الدرجة الثانية. كان ذلك تحت غطاء "المساواة" التي حصرت، مثلاً وعملياً، خدمة العسكرية بالمسلمين. ومنذ نهاية القرن التاسع عشر وبداية العشرين طالبت بعض النخب الإسلامية بإنشاء مجالس ملية اسلامية على غرار المجالس الملية المسيحية أو اليهودية لأن الدولة العثمانية كانت تزيد من سيطرتها عليهم بينما تلتزم بامتيازات الجماعات غير المسلمة بسبب ضغوط القناصل الأجانب. وانعكس مجمل وضع العلاقة بين الأغلبية والأقليات غير الإسلامية في الميزان الديموغرافي. فبحسب عالمَي الديموغرافيا يوسف كرباج وفيليب فارك، زاد عدد المسلمين في الفترة العثمانية في بلاد الشام أقل من ثلاثة أضعاف بينما زاد عدد المسيحيين أكثر من ستة أضعاف، أي أن الأقليات المسيحية زادت بنسبة أكثر من الضعفين عما زاد المسلمون. وربما مثل اتجاه الحركات الوطنية العربية لنزع امتيازات الأقليات منذ منتصف القرن العشرين ردّ فعل على حجم هذه الامتيازات في الفترة التي سبقتها.
لم ينحسر الاستقطاب بين الملل الدينية في فترة الانتدابين الفرنسي والبريطاني بل زاد حدة بسبب السياسة التقسيمية المذهبية والعرقية التي اتبعها الاستعمار. وحازت سياسة باريس قصب السبق في هذا المجال إذ قسمت سوريا ولبنان دويلات عدة ومناطق متناحرة. واليوم حين يقول البعض باسترجاع حقوق طائفة أو مذهب معين في لبنان، فإنهم يعنون عملياً استرجاع امتيازاتهم لا حقوقهم، لأن هذا الجزء من طائفة معينة كان يحتكر منصب رئاسة الجمهورية وقيادة الجيش ومدير الأمن العام وحاكم المصرف المركزي، ولم يتم التخفيف سوى من بعض صلاحيات رئاسة الجمهورية في اتفاق الطائف عام 1989.


مؤرخ وأستاذ جامعي


 

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم