السبت - 27 نيسان 2024

إعلان

بلد المصالحة

سمير عطاالله
بلد المصالحة
بلد المصالحة
A+ A-

ودّع سفير المغرب الدكتور علي أومليل لبنان يوم الخميس الماضي في رسالة إلى اللبنانيين هي خليط من مطالعة وفكر وشعر وتحسّر. والرجل، علي أومليل، من كبار مفكري العرب ومن ألمع الحداثيين وأحد اعلام الصف الأخير من حراس العمل القومي. ويذكرنا علي أومليل بأن العرب، في اقصى المغرب، يتعرفون إلى لبنان يافعين في كتبهم المدرسية. ويتحدث بتواضع العلماء عن آثار الفينيقيين في بلاده، من غير أن ينتبه إلى أننا متذابحون حول المسألة بين مسلمين ومسيحيين، مع ان السادة الفينيقيين ولدوا وعاشوا وانقرضوا قبل المسيحية والاسلام. والميثاقية، يتأمل السفير الذي أمضى سنوات طويلة في بيروت، حال الازدواجية والانفصام والتوتر والقلق التي نعيش فيها، ثم يتأمل اقبالنا على الحياة وعشقنا للفنون والآداب والمرهفات، ويتساءل دون جواب، فيكتفي باشهار حزنه على كتلة جمالية تحولت إلى كوكب خيطان معقد.
الذي يُحجم الديبلوماسي عن قوله في سطور العتب والمحبة، أن حزنه الذي يغطي فرح كل السنوات التي يعود بها إلى بلده، هو على شعب يخفق في أن ينتمي إلى وطنه بقدر ما يحبه الآخرون. ليس اول سفير مغربي يقع في حب هذه الأحجية.
قبل سنوات دعاني وزير الدولة المغربي لشؤون الأوقاف الدكتور عبد الكبير العلوي المدغري إلى الرباط، للمشاركة في تكريم الدكتور أحمد بن سودة، المستشار السابق للحسن الثاني، وكان يُفترض، على ما اعتقد، أن اتحدث عن مرحلة بن سودة سفيراً في لبنان. غير أنني لم أكن قد عرفته في بيروت، ولذا، فضلت الكلام على شخصيته الأدبية.
كانت القاعة مكتظة بالحضور كأنما في أمسية لنزار قباني. وكان مقرراً أن أكون أول المتحدثين الثلاثة، فاستأذنت أن اكون الأخير، لكي يتسنى لي إضافة بعض الاشياء إلى كلمتي.
متصدراً القاعة على كرسي متحرك، كان أحمد بن سودة، وإلى جانبه ابنه. تأملته من المنصة بحزن. هل هو ذلك الحيوي اللغوي البارع الذي كان يستقبلنا لدى زيارة الملك الحسن؟ كان الحسن الثاني يعيِّن جميع الوزراء ورؤساء الحكومات البارزين، مستشارين في الديوان بعد تقاعدهم. وعندما ندخل القصر، كنا نرى ذوي الاسماء الكبرى في قاعة صغيرة بانتظار اجتماع، أو استدعاء. لكن أحمد بن سودة كان أكثرهم حيوية واندفاعاً وترحيباً. ما أن يراك، حتى يبادر إلى كسر رهبة القصور. ثم يبدأ بالسؤال عن اصدقائه في بيروت، التي يبدو أنها أهم مراحله الديبلوماسية.
منها، كان "يغطي" أيضاً المسرح السياسي في المنطقة، ويحمل رسائله إلى زعمائها.
تأملت من المنصة "بن سودة" كما كان يناديه الملك، فلاحظت شيئاً آخر غير الكرسي المتحرك، رأيت الرجل الطافح حيوية، زائغ النظرات. ثم تأكدت أن الزيغ دائم. وبين فترة وأخرى يقول شيئاً ما بصوت عال، فيهدئه ابنه بسرعة، ويمتثل مثل طفل.
أدركت أن ضريبة العمر أبعد من الكرسي المتحرك. وعندما انتهينا من القاء الكلمات، تقدمت منه أصافحه، فرد بأدب، ولكن من دون اشارة إلى المعرفة. وعندها اقترب منا مدير مكتبه محمد طنجاوي وذكر اسمي بصوت عال، لكن الرجل ظل ضائع النظرات.
بعد القاعة، دعي الحضور إلى صالة جانبية أقيم فيها مقصف الضيوف. وأحاط الجميع بالمكرَّم الذي كان يحيّي الناس بمودة، ولكن بغياب.
فجأة قرر محمد طنجاوي أن يستخدم كلمة سحرية تعيد إلى بن سودة ذاكرته كالشلال، ودون توقف. فاقترب منه وقال: "سيدي احمد، هل تذكر قصيدتك عن "بيت مري"؟. أربعون بيتاً من الشعر تلاها كأنه واقف على شرفة "فندق البستان". وظل يتلو من شعر لبنان إلى أن بدأ الحضور بالانصراف. فعاد بن سودة وأغلق نفسه على العالم الخارجي. ليس باقياً في الذاكرة التي كانت تحفظ دواوين العرب، سوى ما كتبه في لبنان.
يغادرنا علي أومليل ونحن ندخل أعمق ازماتنا الوجدانية ليعود إلى البلد العربي الوحيد الذي عرف كيف يعقد المصالحة بين الحكم والمعارضة. كان علي أومليل ابن سائق شاحنة من القنيطرة. حاز الدكتوراه من السوربون عن أطروحة عن ابن خلدون. وعاد استاذاً لعلم الاجتماع في جامعة الرباط، ومعارضاً في صفوف المهدي بن بركة. وعندما خطا الحسن الثاني تلك الخطوة التاريخية في تكليف المنفي ورفيق بن بركة، الدكتور عبد الرحمن اليوسفي، تشكيل الحكومة والمشاركة في الحكم، كان أول ما فعله بن يوسف الاستعانة برفاق الحركة، بادئاً بمؤلف "في شرعية الاختلاف"، علي أومليل.
جاءنا اليوسفي إلى بيروت بدعوة من الرئيس رفيق الحريري، الذي أقام له حفل استقبال في السرايا. وفيما كنا في حلقة حوله، وصل رفيقه في النضال الاستاذ محمد كشلي. صافحه قائلاً: هل تذكرتني؟ فقلت له لقد أمضى ثلاثين عاماً يحاول أن ينساك وأن ينسى سنوات الضنك. وانفجر رمز المصالحة الوطنية المغربية ضاحكاً.
تغير المغرب بعد ذلك العقد الوطني. وعندما جاء محمد السادس، كانت شرعة المصالحة قد اصبحت من بديهيات المشاركة بين قصر المشور وممثلي القوى الرئيسية. وظل اليوسفي إلى جانب الملك مستشاراً حتى في تشكيل حكومة بن كيران.
وكان أول ما فعله محمد السادس اقصاء رموز المرحلة المريرة وفي طليعتهم وزير الداخلية والاعلام ادريس البصري. وحاول البصري المعزول البحث عن عمل كأستاذ في جامعة الرباط، لكن الطلاب رفضوا حتى أن يدخل حرم الجامعة. وصرت تراه في الدار البيضاء يمشي وحيداً، ويملك من الوقت والتواضع ما يجعله يتحدث طويلاً إلى بائع الصحف على الرصيف.
لم يكن هذا هو البصري الذي كان يختال في القصر ويحرص على أن يبدو كأنه يحمل في جيبه مفاتيح العرش العلوي وأمن النظام. كما أنه لم يكن المظهر الوحيد الذي تخلى عنه محمد السادس، الذي حرص، بدل الانتقال السريع إلى قصر المشور، أن يبقى في سلا، القريبة من الرباط، يستقبل البسطاء الذين كان يستقبلهم من قبل.
وعندما اطل "الربيع العربي" بعواصفه الهائجة، وبانت فيه ألوان التخلف، كان المغرب محصناً برباط العقل الذي يجمع بين اليسار القومي، الذي يمثله الاشتراكيون السابقون، والاعتدال الديني الذي يمثله بن كيران. وزالت من الذاكرة صور احمد اوفقير وانقلابات الصخيرات، جواً وبراً، والسجون الشديدة الظلام التي تسببت بها.
حول علي أومليل السفارة المغربية إلى منتدى ادبي هوامتداد للشغف الثقافي الذي عرف عن المغاربة. وإذ كتب مودعاً لبنان، قال إن الذي يعيش هنا فترة من الوقت، يقول إلى اللقاء، وليس وداعاً.
سلفه احمد بن سودة كان يؤنث لبنان، زيادة في التحبب أو في التشبب. ويوم غادر بيروت، ترك لنا قصيدة هذا بعضها:
أأترك ارض الفاتنات برقة
ومن ملكت أرض الجنان وحورها
أأترك أرض الخالدين وأرزهم
وثلجهم الدافي يناطح افقها
في "رسالته" يخبرنا الدكتور أومليل أنه زار بيت جبران خليل جبران في بشري، وبيت ميخائيل نعيمة في بسكنتا، ومنزل أمين الريحاني في الفريكة. مَن منا قام بهذه الزيارات؟ ما هي المدارس التي تنظم لطلابها رحلات للتعرف على أولئك الذين يعرفنا العالم من خلالهم؟ نحن ميثاقنا النسيان وساعة الحصاد.

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم