السبت - 27 نيسان 2024

إعلان

"تركيه" التي فضحت إنسانيّتنا

المصدر: زحلة – "النهار"
دانييل الخياط
"تركيه" التي فضحت إنسانيّتنا
"تركيه" التي فضحت إنسانيّتنا
A+ A-

فقط عندما سقطت قتيلة، "السيدة المتسولة التي تستعطي عادة عند مستديرة سعدنايل – كسارة"، ضحية تفجير عبوة، بعد ظهر الاربعاء، كانت مزروعة في تربة المستديرة، خلفها مباشرة، استفاق الضمير الانساني تجاه تلك السيدة، التي لم تنل في حياتها من العطف اكثر من يد ممدودة من نافذة سيارة، تنقدها الف ليرة. عاب البعض على الاعلام انه لم يعرف لها اسمًا، وعندما احتار بتعريف الضحية الوحيدة التي قضت في التفجير ذكر بأنها "المتسولة"، وعندما اراد ان يزيد تفصيلا قال بأنها من "التابعية السورية" انطلاقا مما ذكر بيان لقيادة الجيش.


إنتبهوا جيدا لكلمة "عادة"، فمن عادتها ان تقف هناك، عند تقاطع "طريق كل الناس"، الموقع الافضل لتسترزق، والذي يعرف من زرع العبوة بانه الافضل ايضا ليحصد ارواحا. ولكن كم من، عابري "طريق كل الناس"، استطاع ان يتذكر لها وجها، لتلك السيدة المتسولة التي تستعطي عادة عند مستديرة سعدنايل – كسارة، بعد ان عرف بمقتلها؟ ترى هل سألها احد يوما عن اسمها؟ وعمرها؟ هل اهتمّ احد بظروفها التي دفعتها وهي في هذا العمر المتقدم ان تسترزق من التسول؟ كم مرة عبر بقربها، وكم مرة نقدها الف ليرة ؟ ألم يتأفف من هذا الاستغلال لعجزة ونساء واطفال "جماعة النَوَر عاملين من الشحادة شغلتهم"؟ او ربما اطلق العنان لبوق سيارته لان ثمة من اوقف السير لينقدها الف ليرة فيما الخط مفتوح؟ من كان سيفتقدها لو توفت لأسباب طبيعية، ولم تقض في انفجار، ضحية الصدفة؟ ألم تكن بالنسبة لنا جميعا، حتى في اقصى تعاطفنا معها وهي على قيد الحياة، اكثر من متسولة.
نعم لم يعرف الاعلام، اسم "السيدة المتسولة التي تستعطي عادة عن مستديرة سعدنايل – كسارة" وكذلك الاجهزة الامنية، توجب ان يحضر احد ويتعرف عليها، ويعطيها اسما ووجها".
يسهل الانتقاد من خلف شاشات التلفزة والهواتف الذكية. لكن قبل ان يصل الخبر الى تلك الشاشات، ثمة مراسل صحافي يتعين عليه ان يلتقط الصور، ويحيط بكل تفاصيل الحادثة، الضحايا والاضرار والمتضررين، والمستهدفين، سائلا الف سؤال، مجريًا عشرات الاتصالات، متأكدا من كل معلومة "حتى لا يُجلد" اذا ما أخطأ بواحدة، فكيف بأسماء الضحايا والجرحى؟ مقاسيا في الوقت عينه أوامر رجل امن من هنا وجندي من هناك، احيانا بتهذيب ومرارا بصلف، ويرسل الصور والمعلومات مباشرة، في سباق مع الوقت، ليغذي نهم جمهور، ينتظر الصور والمعلومات على شاشات تلفازه وهواتفه، فيما المنافسة على أشدّها، مع الكاميرات ووسائل التواصل التي باتت متاحة لجميع الافراد، يتحول معها المواطن الى مراسل يزود منصة حسابه على وسائل التواصل الاجتماعي بالصور، فتنتشر كالنار في الهشيم. على وسائل التواصل الاجتماعي نفسها التي رشق فيها الاعلام بالإدانة، تصدرت صورة لها، جثة، على جانب الطريق، غارقة في دمها.
تقول بطاقة هويتها، الصادرة عن وزارة الداخلية السورية، بأنها تركيه رشيد سليم، وبأنها مولودة في جبلة العام 1942، وكذلك شهادة التسجيل الصادرة عن مفوضية شؤون اللاجئين في الامم المتحدة، التي تسجلت فيها على اسم ابنها وعائلته، وأعطتها تاريخ ولادة في الاول من كانون الثاني، اذا هي في الـ 74 من العمر، لكن أهلها يقولون بأنها في الثمانينات.
تركيه أرملة ووالدة لـ 18 رجلًا و3 سيدات، احدى بناتها قالت ان لها 20 شابًّا، جميعهم متزوجون، ولها عدد غير معروف من الاحفاد يملأون المخيم البائس، الذي كانت تقيم فيه، ويلهون بكراسٍ مدولبة فارغة، قبل ان تجذبهم الكاميرات التي حضرت بحثا عن قصة "الحجة".
يقتصر المخيم، الذي كانت تقيم فيه، على بضعة خيم هزيلة مدقعة، ويقع الى يمين طريق دير زنون، قبل جسر نهر شمسين، هناك حيث يقطن عادة "جماعة النَوَر" اولئك الذين نتأفف منهم لأنهم لا يشبهوننا بشيء كحَضَر، ونلعن كلما "نطّ" احد اولادهم، الذين يسرحون في الطرقات، امام سيارتنا ويكادون "يبلونا بمصيبة صدمهم". هي تنتمي الى تلك الشريحة المسحوقة اجتماعيا، التي تسحق بدورها الاناث من بينها، وتستخدمهن أداة لكسب العيش والتناسل والقيام بكل متوجبات ومتطلبات ذكور العائلة.
صورة تركيه على بطاقة هويتها لا تشبهها، كيف عرفنا ذلك ونحن لا نعرف لها وجهًا؟ من صورة حصلنا لها عليها وهي على قيد الحياة، ربما هي الوحيدة لها في كل حياتها. التقطها لها توفيق رشيد الهندي، في 29 آب الجاري، اي قبل يومين من مقتلها، لأنها ذكّرته كثيرا بشخص عرفه في حياته، فكانت صدمته شديدة عندما تعرف على القتيلة في حادث التفجير، من ثيابها، على انها صاحبة الصورة. صورة تجمدها في الاطار عينه "السيدة المتسولة"، لكن ابعد من اليد الممدودة لتلتقط الالف ليرة من نافذة سيارة، تنبعث تركيه وجها تعلوه شبه بسمة ابرزت تجاعيده، وجها بملامح يشبه وجه أُخرى.
هذا اسمها، وذاك وجهها، وتلك نتف من قصة حياتها التي انتهت بتفجير قتَلها، فأحييناها في ضمائرنا إنسانة. أن يُعرف من قتل تركيه، ويحاكم ويسجن تلك هي قمة الضمير الانساني، حتى لا نبكيها في مماتها ايضا بالرخيص.












حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم