السبت - 27 نيسان 2024

إعلان

رسالة إلى الرئيس ميشال عون

فرحان صالح
A+ A-

شهد لبنان بعد منتصف السبعينيات من القرن العشرين تدهوراً في أوضاعه، خصوصاً بعد اغتيال قائد الحركة الوطنية كمال جنبلاط، واغتيال مشروعه لتغيير النظام الطائفي في لبنان. استمرت حالة الهبوط – الحرب الأهلية – متخذةً مظاهر متنوعة بتنوع التحولات التي أدت إلى مقتل ما يزيد على 200 الف مواطن، إضافةً إلى أعداد مضاعفة من المخطوفين والجرحى والمصابين والمشوهين نفسياً واجتماعياً ومادياً، خصوصاً أولئك الذين هُجّروا من مناطقهم.


توقف شلال الدم بعد اتفاق الطائف عام 1990، فأعيد تشكيل طبقة سياسية تدير السلطة برعاية ووصاية سورية – سعودية، حيث تشكلّت معظمها من أمراء الحرب الذين انتقلوا، مع محازبيهم، من الشوارع ليتسلموا إدارات الدولة. لم تتحول الدولة اللبنانية في ظل هذا التغيير، دولة قانون، بل تحولت دولة توافقية تدار من خلال مركزيات سياسية طائفية دون مشروع وطني. لم تطبّق في لبنان التشريعات القانونية التي تعامل اللبنانيين كمواطنين متساوين في الحقوق والواجبات، رغم أن الطائف نص على تشريعات الغاء الطائفية السياسية، إلاّ أنّ الوصاية المزدوجة، كذلك مصالح الزعامات الطائفية، حالت دون ذلك. والنتيجة كانت بلورة فيديراليات طائفية في مشروع دولة يوظفها الزعيم السني لخدمة مصالحه، مدّعياً أنها لخدمة طائفته أيضاً، وهكذا فعل كل من الزعيمين الشيعي والدرزي. لكن التوازنات التي فرضتها، كانت قد استبعدت ليس الرئيس عون والكتائب فحسب، وإنما أيضاً القوات اللبنانية التي وُضِع زعيمها في السجن، كما تم نفي ريمون اده. وبرزت في المواجهة قيادات اعتُبرت أنها ممثلة للمسيحيين، تمثلت بالوزراء سليمان فرنجية وايلي حبيقة وميشال المر. وفي المحصلة، تبدّلت التوازنات التي كانت لمصلحة الموارنة، فأصبح الشيعة والسنة والدروز شركاء في اتخاذ القرار.
فشل عون في انتفاضته التي هدفت الى تغيير موازين القوى، دفع لبنان ثمناً غالياً من القتلى والمصابين والدمار. نفي عون وشركاؤه إلى فرنسا، فردّد عون في الخارج، كما كان يفعل في إدارته للصراع الداخلي، خطاباً وطنياً لم يساير فيه الوصاية المزدوجة، ولا الزعامات التي استلمت السلطة. استقطب عون في نهجه هذا معظم النخب والشرائح الوطنية العابرة للطوائف. أيّده معظم المتضررين من التركيبة السلطوية الطائفية، ومن الوصاية الخارجية، التي أرست تركيبة لا يمكن إلاّ أن تهتز في حال حصول أية تحولات في السياسات الخارجية، ولاسيما صيغة التوازنات بين السعودية وسوريا.
وبعد نفي عون إلى باريس، كان لي أن اتصلت به وتكلمت معه عدة مرات، كان ذلك بعد عام 1992. وكان صلة الوصل هو أ. عبدالله الخوري، أحد أبرز الشخصيات التي دفعت ثمناً غالياً خلال فترة نفي عون. والخوري كان قد عرّفني إليه واحد من أنقى النخب الوطنية وهو أ. جورج ضومط. كما أني شاركت مع آخرين في العديد من النشاطات التي لم يكن التيار بعيداً عنها، منها النشاط الذي أقيم في بلدة أبل السقي (فندق الدانا)، والذي تكلم الرئيس عون فيه من باريس، وتكلمت فيه بالإضافة إلى عدد من الشخصيات منهم: د. أيوب شحيمي، والمختار أحمد شرف الدين، وأ. عبود فضول وآخرون.
استشهد الرئيس الحريري الذي كان من خارج التركيبة الميليشيوية التي حكمت لبنان، وإن كان العرّاب الأول لاتفاق الطائف، مع ما أداه استشهاده من انعكاسات كانت أهمها انتفاضة الأرز التي أدت إلى انسحاب الجيش السوري من لبنان. وبعدها، عاد الرئيس عون إلى لبنان بعد نفيه ورفاقه مدة 15 عاماً، حيث بقي خلال وجوده في باريس محافظاً على خطابه العابر للطوائف، ما أدى إلى تكريسه زعيماً وطنياً دون أي منازع. وكان خطابه الوطني السلاح الذي انتصر فيه في الانتخابات التي حصد فيها النسبة القصوى من التمثيل البرلماني. في هذه الفترة، قبل الانتخابات وبعدها ، كان التيار الوطني الحر قد افتتح مدرسةً لكوادره، كنت من المشاركين في هذا الجهد، كما أنني دعيتُ بعض النخب لإلقاء محاضرات على الكوادر التي تشرف على تأسيس التنظيم. لكن قبل توقيع ورقة التفاهم بين التيار الوطني و"حزب الله"، ذهبنا إليه برفقة 19 شخصاً، كان من ضمنهم د. زاهي ناضر، الذي رافقنا في كل اللقاءات. ويومها، كنت آخر من تكلم، فقلت للرئيس عون: "لست ضد توقيع ورقة التفاهم مع "حزب الله"، لكني أتمنى ايقاف مفاعيلها لحين صياغة ورقات تفاهم مع بقية مكونات المجتمع اللبناني". ضحك عون وقال: "هناك من يرفض الحديث معنا مسبقاً، هناك صعوبة في تحقيق ما تطلب". فقلت له: "فليمارس التيار دوره كحلقة وصل للحوار بين المكونات المجتمعية اللبنانية".
وبعد مدة، زارني د. جورج زكي الحاج، قائلاً: إن دولة الرئيس يريد اللقاء بكم. فذهبت للقائه، وكان الحديث عن الانتخابات، كما تحدثنا عن أمور ثقافية مختلفة. وبعد اللقاء بمدة، تم توقيع ورقة التفاهم مع "حزب الله"، مع ما تلاها من تغيير في خطاب التيار، حيث أصبح الرئيس عون يتكلم بوصفه ممثلاً لأغلبية المسيحيين. ونحن الذين كنا نراهن مع الآلاف ممن أتخذوا موقفاً مؤيداً لأيديولوجية التيار، ولمنهجه الوطني، فكنا نعتقد أن استمرار هذا النهج سيؤدي إلى اهتزاز الحكم الطائفي، وبالتالي التأسيس لمناخات سياسية ستؤدي، عاجلاً أم آجلاً، إلى إزالة هذا الحكم. وكنا نعتقد أيضاً، ونحن من خلفيات سياسية مختلفة تماماً، أنّ هذا النهج سيؤسس لتجديد الفكر الإصلاحي الذي بدأه الرئيس فؤاد شهاب. لكن أحلامنا توقفت بعد أن أصبح الرئيس عون ممثلاً للمسيحيين، وأصبح يناضل كي يشرّع نفسه زعيماً من أركان النظام الطائفي، مثله مثل غيره من الزعامات. عشرات الآلاف من النخب التي وقفت مع التيار بدأت تتساءل: هل هُزمت الأحلام؟
أخيراً، يحكى أن أحد المُلاّك من الأقباط اختلف مع جاره المسلم على ملكية قطعة أرض في مصر. اسفر هذا الاختلاف عن صراعات طائفية دموية، فاقترح البعض أن يُسأل راهب قبطي وشيخ مسلم عن حلول للمشكلة. اجتمع الشيخ والراهب، وبعد ثلاث ساعات خرجوا برأي يطلب ممن يدّعون أنهم أصحاب الأرض من الطرفين أن يحفروها، فإذا وجدوا صليباً تكون الأرض للأقباط، وإذا وجدوا هلالاً تكون الأرض للمسلمين. وبعد جهد كبير في الحفر وجدوا صليباً، إلاّ أن تظاهرة كبيرة وصلت إلى المكان، وهي تردد: الله أكبر، الله أكبر، وجدنا صليب النبي محمد. ويبدو أن التيار الوطني الحر يفتش عن هذا الصليب عند الشيعة، كما أنّ القوات اللبنانية تفتش عنه عند السنة. أما من يبحث عن حلول لمشكلات هذا الوطن، فيبدو أن مشروعه بعيد.

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم